الأفكار لا تموت أبداً، وكلما وجدت متنفساً من هواء حلقت فى السماء، أما صانعو الأفكار فنحن نستدعيهم من العالم الآخر ونستعيد أرواحهم، ونجرى معهم حوارات حية.. هنا فقط «مصطفى محمود» المفكر والأديب والفيلسوف والطبيب الراحل عن عالمنا الصغير فى أكتوبر 9002، وصاحب الرحلة الفكرية التأملية الطويلة وصاحب العديد من الإسهامات القيمة فى تاريخنا الثقافى المعاصر سواء من خلال كتبه ومقالاته وأفلامه وبرنامجه الشهير الذى التفت حوله كل أطياف المجتمع.. هذا بخلاف إسهامه العملى الملموس فى مجتمعه من خلال جمعية مصطفى محمود مسجداً ومستشفي.. مصطفى محمود القيمة والقامة والذى أكد مراراً على أن قيمة الإنسان هى ما يضيفه إلى الحياة ما بين ميلاده وموته.. اليوم وبعد رحيله عن عالمنا ب 4 أعوام وافق لنا مشكوراً على هذه المقابلة.. فيتو: كيف الحال ياسيدي؟ - مصطفي: وكيف تكون حال من كان بدار الحق!! فيتو: ظنناك توقفت عن الفلسفة يوم رحلت عن دنيانا؟ - ضحك مصطفى محمود ضحكته التى اعتدنا عليها ولم يعلق. فيتو: ظللت تسأل طوال حياتك عن الله والزمن والحياة وما وراءها وعن الموت وعن كل شيء.. هل شفيت حيرتك أم لم تزل بعد حائراً؟ - مصطفي: فى دار الحق ترفع الحجب ولا يبقى مجال لأى تساؤلات أو أى حيرة من أى نوع. فيتو: كانت رحلة شكك طويلة أصلت لها فى كتبك ومقالاتك.. لماذا كان الشك؟ - مصطفي: حق الإنسان فى المعرفة الأولى دون مرجعيات مسبقة.. أن ترد النهر الأول والمنبع الأول وترتوى منه إلى أن يطمئن قلبك. فيتو: متى نمت بذور الشك الأولى بقلبك؟ - مصطفي: منذ طفولتى فقد كنت متمرداً باحثاً لا أقبل ما يملى على مسلماً دون أن أحلله أو أناقشه. فيتو: رأى البعض أن شكوكك لم تكن شكوكا حقيقية، ولكن كانت بقصد إثارة البلبلة وتشتيت الناس.. هل ترى وجاهة لمثل هذا الرأي؟ - مصطفي: لا أبالى كثيراً بما يراه الآخرون.. وأتعجب من لوم البعض عليك حين تسأل عما يحيك بصدرك.. لولا الشك ما كانت تلك المسيرة الطويلة نحو اليقين. فيتو: اتهمك الكثيرون بالإلحاد نتيجة كتاباتك وتساؤلاتك.. ولا يزال البعض يردد هذه الاتهامات.. ما السبب فى نظرك؟ - مصطفي: إنه الاستسهال الذى اعتاده الناس منذ عهد طويل.. فكل من يقدم فكراً جديداً أو مختلفا بدلاً من أن يناقشوه أو يجهدوا عقولهم فى فهمه يتهمون صاحبه بالكفر والإلحاد كى يريحوا أذهانهم.. لم أكن أول من اتهموه بهذا ولن أكون الأخير. فيتو: هل مازالت تؤذيك مثل هذه الاتهامات؟ - مصطفي: لم أكترث بها كثيراً فى حياتى الدنيا، وظللت كما أنا أقول وأفعل ما أؤمن به.. هل تظن أنها ستؤذينى اليوم!!.. لقد ابتعدت عن كل هذه الترهات ولقيت روحى مرادها. فيتو: كيف؟ - ضحك مصطفى محمود قائلاً: هناك من الأسرار ما لا يكشف إلا بعد الموت.. حين تأتى للعالم الآخر مقيماً لا زائراً ستعرف.. لا تتعجل المعرفة. فيتو: إن كان كما تقول.. فدعنا بالفعل لا نتعجل الأمور. - تعلو ضحكته ولا يعقب. فيتو: طبيباً أم فناناً أم فيلسوفاً أم مفكراً.. أى هؤلاء كان مصطفى محمود؟ - مصطفي: الإنسان كائن مركب.. هو خليفة الله على أرضه.. يجمع بين جنباته صفات كثيرة وتناقضات أكثر.. كنت ببساطة كل هذا.. كنت إنساناً. فيتو: تخليت فى فترة من حياتك عن الطب وتفرغت للكتابة.. لم فعلت هذا؟ - مصطفي: وقتها أصدر جمال عبدالناصر قانوناً بعدم جواز الجمع بين وظيفتين فاخترت الكتابة. فيتو: تعجب الكثيرون من اختيارك هذا واعتبروه اختياراً عجيباً.. كيف حسمت أمرك؟ - مصطفي: ربما وجد الناس حينها أن مهنة الطب أعظم من الكتابة، لكننى اخترت الأحب لي.. فالإنسان يكون أكثر عطاء كلما كان أكثر حباً لعمله.. أحببت الطب بالطبع.. لكننى أحببت الكتابة أكثر. فيتو: ظللت طوال حياتك تفعل ما تريد دون أن تلتفت كثيراً لرأى الناس والمجتمع.. كيف كنت تقوى على هذا؟ - مصطفي: الإنسان فى طريقه فى الحياة يجب أن يكون متسقاً مع ذاته وقناعاته.. يجب أن يكون صادقاً مع نفسه.. ليس من المفترض أن يعنيه كثيراً إرضاء الناس فالناس فى كل الأحوال لن ترضى عنك مهما فعلت. فيتو: ألم تكن معادلة صعبة؟ - مصطفي: كانت كذلك بالفعل. فيتو: كنت محباً للموسيقى متأملاً لها.. صوت الناى الشهير فى مقدمة برنامجك مرتبط بذاكرة جيل بأكمله.. لم الناى تحديداً؟ - مصطفي: كان الناى الأحب إلى روحي.. كنت أراه أقرب الآلات للذات الإنسانية. فيتو: يتعجب جيلى أحياناً من أين أتيت بوقت لكل هذا؟ - مصطفي: الوقت موجود ولكن من يستثمره!! فيتو: نقف اليوم على بعد سنتين من قيام ثورة شعبية بمصر.. كيف رأيت المشهد؟ - مصطفي: مشهد فوق الوصف.. بهرنى المصريون وهم ينتفضون من أجل حقهم الإنسانى الأصيل فى العيش بحرية وكرامة.. يبدو لى المعدن المصرى ثميناً رغم كل الركام الذى علاه طوال العقود العجاف السابقة. فيتو: إذن أنت من أنصار هذه الثورة؟ - مصطفي: كنت ثائراً طوال عمرى فكراً ومنهجاً.. فهل ترانى اليوم لا أناصر مثل هذه الثورة!! فيتو: بم شعرت إذن حين رأيت المظاهرات المؤيدة للنظام البائد تخرج من الميدان الذى يحمل اسمك؟ - مصطفي: أحزننى هذا أشد الحزن.. أن يقترن اسمى طوال الوقت بتلك المظاهرات المؤيدة للظلم.. كم أنتم قساة أيها الأحياء!! فيتو: هل ترانا قساة بالفعل؟ - مصطفي: يقسو الإنسان أحياناً دون أن يقصد.. لكن لا يخفف هذا من ألم قسوته. فيتو: هل ترى الثورة تسير فى مسارها الصحيح؟ - مصطفي: أراها تحاول ولكن القيود والأغلال تحدها من كل جانب. فيتو: هل تؤمن إذن بسيناريو الثورة المضادة؟ - مصطفي: إنها قوانين الطبيعة.. لا يمكن لأحد أن ينكرها.. «لكل فعل رد فعل مساو له فى القوة ومضاد له فى الاتجاه» وفى الحالات الثورية يكون رد الفعل أكثر قوة وأكثر شراسة، لأنها تتحول بالنسبة إليهم لمعركة وجود. فيتو: هل ترى هذه الثورة منتصرة؟ - مصطفي: لا ينتصر فى النهاية إلا الحق.. إنها سنة كونية.. ولكنكم تستعجلون. فيتو: كيف تقيم شباب الثورة؟ - مصطفي: أبناء عصرهم مثلهم مثل أبناء أى زمان.. لو استمروا على طريق كفاحهم النبيل، فسيغيرون وجه مصر. فيتو: هل تظن أن البرلمان المقبل سيكون ممثلاً للثورة؟ - مصطفى ضاحكاً: سيكون برلماناً على أى حال. فيتو: ماذا تقصد؟ - مصطفي: حدث استقطاب كبير فى الدعاية للمرشحين، وحين يحدث الاستقطاب لا تفرز الصناديق تمثيلاً حقيقياً لرؤى الناس.. هذا بخلاف أنها لا تفرز الوجه الثورى بأى حال من الأحوال. فيتو: ولماذا حدث هذا الاستقطاب من وجهة نظرك؟ - مصطفي: حدث استغلال لحالة الارتباك والخوف من المجهول التى يحياها الشارع المصرى فنزحت الناس لمن يمنحها الوعود التى تبدو أكثر طمأنينة. فيتو: هل ترى استغلالاً للدين فى هذه الانتخابات؟ - مصطفي: بلا شك. فيتو: هل لا يزال من السهل التأثير على الناس باسم الدين؟ - مصطفي: للأسف نعم. فيتو: ما هو فى اعتقادك السبب الرئيسى لهذا؟ -مصطفي: الجهل وقلة الوعى سببان رئيسيان.. لا تنس أن ثلاثين عاماً من تجريف التعليم ليست بالجريمة الهينة.. الناس تخدع حتى اليوم بالمظاهر المصبوغة بالصبغة الدينية ولا يفرقون بينها وبين الدين الحقيقي. فيتو: وما الدين الحقيقى من وجهة نظرك؟ - مصطفي: الدين ليس مجموعة من الطقوس والمناسك التى يؤديها العبد فى روتينية خالية من أى معني.. الدين هو التقوى الحقيقية.. هو الانتصار للقيم العليا.. للحق والخير والجمال والكرامة والحرية والعدل.. خاصة حين تتحدث عن أطر تحكم المجتمعات. فيتو: من خلال رؤيتك هذه كيف تقيم تيار الإسلام السياسى فى مصر إذن؟ - مصطفي: هو تيار متعدد الاتجاهات فالإخوان بلا شك يختلفون فى أفكارهم وخبراتهم بالعمل السياسى عن السلفيين . فيتو: هل تراهم يمثلون الدين؟ - مصطفي: لا أحد يمكنه أن يمثل الدين ولا يوجد تيار يقوى على ذلك.. الدين ليس حرفة ولا يوجد ما يسمى فى الإسلام باسم رجل الدين.. كلها تجارب بشرية من حق الناس أن يحاكموها ويحاسبوها. فيتو: كيف ترى طرحهم؟ - مصطفي: أجد فيه أحيانا قصورا شديدا وعدم التفات للأولويات فيتو: كيف؟ - مصطفي: أعتقد أن المشكلة تكمن فى عدم تفريق أغلب الحركات الإسلامية بين خطاب الله لولى الأمر وخطابه لعموم المسلمين. فيتو: بمعني؟ - مصطفي: أجدهم فى أحيان كثيرة ينشغلون بالتفاصيل والسفاسف والتدخل فى حياة الناس وينسون القيمة الأهم التى أوجبها الإسلام على ولى الأمر وهى أن يقيم العدل ويرفع المظالم عن الناس، وليس أن يفرض عليهم زياً معيناً أو أسلوب حياة معين. فيتو: أيهما أقرب فى رأيك لنموذج الإسلام السياسى فى مصر؟ النموذج التركى أم الأفغاني؟ - مصطفي: أعتقد أن مصر ستفرز نموذجها الخاص بها. فيتو: هل يقلقك أن يسيطر تيار معين على الحركة السياسية فى مصر؟ - مصطفي: لا يقلقنى ولا يجب أن يقلق أى أحد بشرط واحد هو أن تحرصوا على تداول سلطة حقيقي.. حينها فليأت من يأتى للسلطة ما دمتم قادرين على إسقاطه بعد أربع أو خمس سنوات. فيتو: هل أنت متفائل بمستقبل مصر خلال السنوات المقبلة؟ - مصطفي: التشاؤم رفاهية لا تملكها الشعوب أوقات الثورات.. أنا متفائل ولكن الأهم هو تفاؤلكم أنتم. فيتو: بم تنصح محبيك ومستمعيك؟ - مصطفي: أن يكونوا أنفسهم وأن يفكروا بلا خوف وأن يعلو صوت فطرتهم وأذكرهم بقول الله تعالي: «هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم». فيتو: ما برأيك أعظم ما خرجت به من دنيانا؟ - مصطفي: التجربة بأكملها. فيتو: هل ندمت على شيء معين وودت لو عدت إلى الدنيا لتمحوه؟ - مصطفى ضاحكاً: هل جئت من دار الفناء لدار البقاء لتحاسبني!! فيتو: العفو ياسيدي.. ارتوينا بلقائك اليوم.. نرجو ألا نكون قد أثقلنا عليك. - مصطفي: على الإطلاق.. أهلاً بكم فى أى وقت. فيتو: زائرين أم مقيمين؟ - مصطفى مبتسماً: مرحبا بكم زائرين.. وإن كانت الإقامة لابد ستأتى يوماً ما. فيتو: إلى اللقاء ياسيدي. - مصطفي: إلى اللقاء.