عندما تُذكر مصر يُذكر الجيش، ليس هذا انحيازًا، رغم أن الانحياز في هذه الحالة فرض عين، وليس دفاعًا، وإن كان الدفاع هنا واجب لا يسقطه شىء، فعبر التاريخ كان للمصريين درعهم الحامي، وسيفهم الضارب، جنود وضباط من أبناء الشعب، دافعوا عن ترابه ضد الغزاة والمعتدين، واستطاع هزيمة قوى الاحتلال بداية من الهكسوس ومرورا بالمغول الذين اجتاحوا العالم، والحملات الصليبية، وليس انتهاء بنصر أكتوبر المجيد. ربما لكل ما سبق واجه جيشنا حربًا إعلامية من دول وأجهزة أجنبية في فترات عدة، وأخرها ما قامت به قناة تسمى - زورا وبهتانا - عربية، روجت ادعاءات ومزاعم هدفها ضرب علاقة الشعب بجيشه، لكن الحقيقة أن كل من انضم للجيش يعرف أنه صنع منه مقاتلا حقيقيا ولهذا ليس مبالغة أن توصف قواتنا المسلحة بأنها "مصنع الرجال". في السطور التالية رد عملي من لعدد من كتيبة "فيتو" التي تشرفت بالخدمة في جيش مصر وقواتها المسلحة، يروون حكايات الانتماء والولاء وقصص صناعة البطولة والفداء.. فإلى التفاصيل: عيد حسن يكتب: ذكريات من مصنع الرجال الخدمة في القوات المسلحة تاج ترصع به رأس كل فرد ينال شرف الانتساب إلى جيش مصر "خير أجناد الأرض" لكونهم في رباط إلى يوم الدين، فمن تربى في مصنع الرجال والوطنية والفداء والتضحية والقدرة على العطاء والصبر لن يخون وطنه فقد حصل على المصل الواقى ضد فيروسات الخيانة. ذكرياتى كجندى في القوات المسلحة ما أكثرها فبعد أن تم الالتحاق بالخدمة العسكرية عقب الانتهاء من الدراسة الجامعية كان لهذا مذاق خاص لكونه نقلة نوعية من الحياة المدنية منزوعة المسئولية إلى حد ما إلى القوات المسلحة لتبدأ صفحة جديدة سبقتها محطات التوجه إلى منطقة التجنيد بالزقازيق ومنها إلى منطقة الحلمية العسكرية بالقاهرة لتوقيع الكشف الطبى لتحديد المعافين أو من يتم اختيارهم كضباط احتياط وتحديد موعد التوجه إلى مركز تدريب المشاة بالقاهرة بعد أن كان السلاح "شئون معنوية" ليتغير وجه الحياة في التدريب الذي يتساوى فيه الجميع لكونهم خلطة وطن تحمل مصر لا فرق بين الجندى العادى والمؤهلات المتوسطة والعليا لنتدرب على التحمل والصبر والطاعة في تنفيذ الأمر والشجاعة والتصرف وقوة التحمل والبذل والعطاء مع المساواة في تناول الوجبات الثلاث يوميا لجميع الأفراد فالكل سواء لتزداد اللحمة والانتماء والولاء بين الأفراد المجندين بالتواصل مع القادة الأصاغر والقيادات العسكرية الأعلى التي تتواصل مع أبنائها المجندين بحضور التدريبات لكونها الحريصة على معرفة الإجابة عن أي استفسار مع حفظ كرامة المجند من أي تعامل خارج العسكرية. وتبدأ المحطة الثانية بتوزيعنا على مختلف التشكيلات القتالية لأكون جنديا في فرع الشئون المعنوية في قيادة الجيش الثالث الميدانى بالسويس على أعلى مستوى وخدمات متكاملة في المطعم "الميز" وتوفير جميع أدوات الألعاب الرياضية ومعى زملاء ما زلت أتذكرهم وهم الدكتور خالد أحمد بهجت، الأستاذ بأكاديمية الفنون وحامد عز الدين، نائب رئيس تحرير الأخبار ومعيدون بجامعة الأزهر أصبحوا أساتذة حاليًا وتم استقبالنا من قبل الضباط ومساعديهم والترحيب بنا بعد الانضمام إلى واجب الخدمة كما وجدنا زملاءنا من الضباط الاحتياط تخرجوا في كلية الإعلام رحبوا بنا مع توجيهات من قائد الجيش بتطبيق التعليمات ومكتبه يكون مفتوحا لأبنائه من الجنود، وكان يتم عقد لقاءات بين القادة والجنود بهدف الإجابة عن كل ما يتم طرحه من قبل المجندين والعمل على حلها فورًا. كنا كجنود شئون معنوية نشارك في الخدمات الثلاث بالقيادة وفى النهار نقوم بتوزيع الصحف على الوحدات التابعة للجيش بجانب التدريب على ضرب النار في الميدان المخصص وكان بعضنا يشارك في التسليم والتسلم مع الإعلام وأجهزة الميكروفونات ومعنا مدنيون في عام 1985 بالوحدات العسكرية بجانب الذهاب فبل بدء الاحتفال بانتصارات أكتوبر إلى دار الشئون المعنوية بالقاهرة مع أحد الضباط لاستلام هدايا الترفيه لتوزيعها على الوحدات في الاحتفال بذكرى حرب 6 أكتوبر، كما شارك بعضنا في مناورة الجيش الثالث في سيناء في أحد الممرات أثناء تولى الراحل المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة، وزارة الدفاع وشاركه في حضور هذه المناورة الرئيس الأسبق جسنى مبارك الذي كان يلوح بيده من نافذة السيارة غير الرئاسية إلى الحضور لتحيتهم كما أن بعض المدنيين الذين كانوا يخدمون في القوات المسلحة وشاركوا فيها حكوا لنا عن بطولات حرب أكتوبر وشجاعة الجندى المصرى. سيد حمودة يكتب: حكاية أول إجازة وقصص العفاريت في معسكر دهشور فترة التجنيد كانت نقطة تحول في حياتى فقد علمتنى الجدية والالتزام والصبر والشجاعة لن تغيب عن ذاكرتي أبدا مهما حييتُ، فترة تجنيدي بالخدمة العسكرية، خاصة فترة التدريب التي كانت في منطقة دهشور العسكرية بالجيزة، وكان يطلق عليها يومئذ "دهشور لا مية ولا نور"، قبل أن تتقادم السنون وتتحول العبارة إلى "دهشور مصنع الرجال".. ما زلت أتذكر أول أيام التحاقي بمركز التدريب، وأتذكر جيدا عنابر السرية، وكيف كان الزملاء يهابون النوم في الظلام، وعندما ينامون يستيقظون على تمايل الأسّرة، وكيف كان الزملاء بالسرية ينسجون قصصا يزعمون خلالها أن العنابر مسكونة بالعفاريت، وهى القصص التي تثير حفيظة ورعب "زملائنا الطيبين". لا أنكر أنني في بداية الأمر، كنت قلقا بعض الشيء، مما يحدث من مواقف تبدو وكأنها بفعل فاعل،ومع الوقت وجدت نفسي متأقلما مع الحياة الجديدة، ولم يعد يزعجنى قصص العفاريت الوهمية. لا شك أن تلك الفترة علمتني الكثير والكثير، بداية من الالتزام والجدية وقوة التحمل والشجاعة والصبر وعدم الخوف أو الرهبة، بل أستطيع إن أقول إنها كانت نقطة تحول في حياتي. كل من التحق بالتجنيد يعي تماما صعوبة الحصول على إجازة في بداية فترة التدريب التي تعد الأهم، بسبب ما يخضع له المجند من تدريبات ضرورية تؤهله للالتحاق بسلاحه الذي يقضي فيه فترة تجنيده، ولا أنسي أن عُرس شقيقتي الوسطي تزامن مع الأسبوع الثالث من فترة تدريبي، وأسقط في يدى، وظللت أفكر مليا وأتساءل:كيف لي وأنا مجند مستجد أن أجرؤ على طلب إجازة لحضور حفل زفاف شقيقتى؟ ورغم صعوبة الموقف، إلا أن الشجاعة تملكتنى في لحظة تاريخية، وطلبت الدخول لأركان حرب مركز التدريب، وشرحت له الأمر، وأذكر أنه استمع إلىّ جيدا، ولم ينفعل علىّ أو يصرخ في وجهى كما توقعت، وطلبت منه إجازة 24 ساعة فقط لحضور فرح شقيقتي، إلا أنه منحنى تصريحا بإجازة 48 ساعة، فكدت أطير من شدة الفرح والسعادة. منذ 4 سنوات.. قدّر المولي - عز وجل - أن أؤدي فريضة الحج، وهناك التقيتُ زميلى في التجنيد محمود أبو الحجاج"، ابن محافظة أسيوط، حيث لم ألتقه منذ أكثر من 20 عاما، تزاملنا في فترة التجنيد بالجيش الثاني الميداني،وكانت والدته الغالية تمدنا بكل ما لذ وطاب مع كل إجازة لابنها الغالى، وتذكرنا سويا أول إجازة حصل عليها من الوحدة الأساسية وكانت" 48 ساعة"، وكانت غير كافية ليسافر إلى بلده في أسيوط، فأراد قضاءها في الإسماعيلية، وشاءت الأقدار أن يتعرف هتاك خلال تلك السويعات على زوجته، حيث ارتبطا فور إنهاء خدمته العسكرية، وأنجبا 3 أولاد. طارق مغربى يكتب: هزمنا الإنجليز ب«نص قلم رصاص» المكان: قاعدة رأس التين البحرية الزمان: الساعة السادسة صباحا (لا أذكر الشهر بالضبط).. السنة 1995 السلاح: اللواء 65 مدفعية وصواريخ ساحلية (القوات البحرية المصرية) المهمة: تدمير فرقاطة بحرية معادية بصاروخ.. أثناء مناورة النجم الساطع القصة: في تمام الساعة الخامسة صباحًا، استيقظت القوات المشاركة في المناورة وهى (مصرية – بريطانية- إماراتية- كويتية – مش فاكر بقية القوات المشاركة) نقيب عماد عامر: جاهزين يا ولاد الجنود: تمام يا فندم ضابط إنجليزى يحمل في يديه شيئًا لا نعرفه ( آي باد الآن) أنا: هو إيه اللى في إيد الضابط الإنجليزي ده يا فندم نقيب عماد: ده يا سيدى كمبيوتر محمول بيدخل عليه الإحداثيات عشان يصيب الهدف بدقة أنا: طب إحنا يا فندم هنقدر نصيب الهدف من غير الكمبيوتر المحمول ده يسحب قلمه الرصاص من خلف أذنه (نص قلم رصاص بالظبط) ويقول: القلم ده ب 100 كمبيوتر محمول يا تحفة.. أنت عارف إن السلاح ده فرنسى وفرنسا أحالته إلى التقاعد وإحنا بشوية تعديل بسيط كده طولنا عمره كمان 20 سنة.. اللى عمل ده اللواء درويش (مش فاكر بقية الاسم) قائد المناورة للقوات المشاركة: عندما تكون جاهزا اشتبك النقيب عماد: الخرائط جاهزة يا ولاد الجنود: تمام يا فندم النقيب: فين العسكري محمود العسكري محمود: تمام يا فندم النقيب: خد إحداثياتك.. جهز المساقط.. اضرب (بووووووووم.. صوت انفجار) النقيب عماد.. ينظر في النظارة المكبرة: أحسن يا رجالة.. تمت إصابة الهدف النقيب عماد: شفت القلم الرصاص صاب الهدف.. يا تحفة.. بص بقى ع الظابط الإنجليزي أنا: ده لسه شغال يا فندم بالجهاز الضابط الإنجليزى: اضرب القذيقة تسقط بجوار مركز قيادته النقيب عماد: مش قلت لك يا تحفة.. بلغ الرجالة أنهم 4 أيام منحة إجازة بعد نهاية المناورة. إسلام غزير يكتب: مدرس في «الدفاع الشعبى» ألف باء.. «حُب الوطن» الانضمام إلى القوات المسلحة شرف عظيم، منحني إياه القدر، في البداية كنت متخوفا مما أسمعه عن صعوبة التدريبات وما إلى ذلك، لكن الوضع كان مختلفا بالنسبة لي، سلاحي كان «الدفاع الشعبي»، وهذا السلاح يعتبر مختلفا كليا عن أسلحة الجيش المتعددة، فالدفاع الشعبي مهمته أن يعلم الجنود الأميين القراءة والكتابة عن طريق فتح فصل محو الأمية، وهو شرف عظيم أن تكون معلما وجنديا في القوات المسلحة. تعلمت الحياة العسكرية في مركز التدريب، قضيت شهرين الأول كان عسكريا والثاني كان مدنيا إلى حد ما.. في الشهر الأول: استيقاظ من الساعة الخامسة ورياضة وتدريبات وتعليم سلاح وضرب نار، كانت تجربة ممتعة تعرفت فيها على أصدقاء مازلنا على تواصل حتى الآن.. الشهر الثاني كان مختصا بدورة تدريبية لإعدادنا كمعلمين لمحو الأمية، محاضرات على يد خبراء مدنيين. رغم أن الحياة العسكرية بالنسبة لي كانت قليلة جدا، فهي شهران فقط، وبقية مدتي أكملتها مدنيًا، أذهب يومين فقط في الأسبوع لأتمم، إلا أنها كانت فترة مملوءة بالخبرات تعلمت فيها كيف أتغلب على أصعب الأمور، تعلمت فيها حب الوطن وكيف يضحي أبناء القوات المسلحة من أجل رفعة هذا الوطن، تعلمت الحياة العسكرية الخشنة، النوم في الصحراء، الوقوف ليلا للخدمة في البرد الشديد، الاستيقاظ مبكرا، كنت بحاجة لأتعلم مثل هذه الأمور، حتى أستطيع مواجهتها في أي وقت متى اقتضت الحاجة. محمد أبو المجد يكتب: حكايتى مع «الطبخة السودا» كل معرفتي ب "الطبخة السوداء" كانت سماعية.. كنت أسمع من أقاربي وجيراني، ممن سبقوني في أداء الخدمة العسكرية، عنها. ما لم أكن أتصوره أن لقائي بها، وبأخواتها، سيكون بمثل تلك الحميمية، والاستمتاع. بعد التحاقي بالقوات المسلحة لأداء فترة التجنيد، عقب ذهابي إلى الوحدة الأساسية بأيام قليلة، أعطوا كلا منا "سرفيس" من الألومنيوم به نتوءات، بما يسمح بوضع أصناف مختلفة من الطعام بها، وكان علينا التوجه إلى "ميس الفرقة" لتناول الغداء يوميا.. كنا نقطع مسافة لا تقل عن 3 كيلومترات من الكتيبة إلى مقر قيادة الفرقة، حيث "الميس"، أي المطبخ، وقاعة الطعام. كنت أنتهز الفرصة، وأقطعها بمشية رياضية منضبطة، وأحيانا هرولة؛ لأستفيد بدنيا.. وفي أول أيام استخدام "السرفيس" حملته بهمة وتفاؤل، وتوجهت إلى "الميس" قاطعا الكيلومترات الثلاث بسرعة. وصلت لأجد طابورا طويلا من طالبي الغداء.. لكنه لم يستغرق وقتا طويلا.. أخذنا بعض الأرغفة، وغَرفة من سائل تخيلت أنه "شوربة" ساخنة، وقطع من شيء اعتقدت أنه لحم.. لست أدري ما الذي حملني على ذلك التخيل، وهذا التصور.. ويبدو أن السر في الجوع. ابتسمت للجندي الذي يغترف من وعاء شديد الضخامة، وطلبت منه أن يقدم لي غرفة أخرى من "الشوربة"، فابتسم ابتسامة أكبر من التي ارتسمت على وجهي، ونفحني بغرفة معتبرة. لم أقدر على الانتظار طويلا حتى تبرد الشوربة.. بل انتحيت جانب إحدى الموائد الموجودة، وشرعت، وكلي أمل في وجبة هانئة، في التهام قطعة من "اللحم".. وهنا كانت المفاجأة.. لقد كانت قطعا تشبه اللحم، لكنها كانت عبارة عن "باذنجان مسلوق".. والغريب أنني لم أتبين الفارق الكبير في الرائحة.. إنه الجوع! الأكثر غرابة، هو حالة الاندماج التي حدثت لي، ولغيري، بيننا وبين مذاق الباذنجان المسلوق. أما عن اللحم والسمك، في فترة التجنيد، فحدث عن الطعم الرائع لهما، ولا حرج.. أقسم إنني لم أتذوق مثلهما في حياتي المدنية، قبل وبعد الخدمة العسكرية. لن أنسى، ما حييت، الأيام الأولى من فترة الخدمة العسكرية ومفاجآتها، التي تحولت، فيما بعد، إلى ذكريات جميلة، أغرق في الضحك كلما استرجعتها، وأشعر بالسعادة تغمرني، والفخر يجللني؛ لأنها زادت من صلابتي، وأضافت إلى رجولتي خشونة، وقوة، وقدرة على التحمل.