وقف الزبون الثرى يفحص عشرات الصور واللوحات داخل المتجر الكبير..ووقف الشاب المكلف بالبيع إلى جواره ينظر إليه فى شيء من الضجر والتقف، وهو يقلب اللوحات وهو يعيد تقليبها عشرات المرات ،كان وجه الشاب القادم من الشمال رغم ما يدور فى داخله خاليا من أى تعبير، وقد عجزت عيناه الزرقاوان وقانته الفارعة وجبهته التى تنحدر إلى مؤخرة رأسه وقفاه الريفى العريض وأذناه التى تغطيان نصف وجهه عجزت عن أن تكسبه سمة التجار ومرونتهم وسعة صدرهم وقدرتهم الخارقة على استمالة الزبائن، وفجأة انفرجت أسارير الزبون عن ابتسامة بلهاء، وكأنه عثر على كنز ثمين ، وقال للشاب مشيرا إلى إحدى اللوحات :أريد هذه، -ولكنها لوحة رديئة يا سيدى ! -قلت أريد هذه اللوحة -أنت تبدد مالك فى مثل هذه السخافات!! -ولكنها تعجبنى -هناك ما هو أفضل منها يا سيدى..لماذا لا تقتنى لوحة «لسيزان» أو «ماتيه»؟؟ انظر ما أروع هذا العمل أنه «لربنوار»..وهذا «لتيلوز لوتر بك».. ما رأيك فى هذه الشاعرية التى تتدفق من لوحة العبقرى «جوجان»..أليست خيرا من هذه اللوحة التافهة ألف مرة!! -هذا ليس من شأنك..أنت تبيع ما يريده الزبائن فقط. -ولكنها لوحة سقيمة غاية فى السذاجة. -أنت تهيننى. -بل أنت الذى تهين الفن. ويحتدم النقاش بين البائع والزبون ..وترتفع درجة حرارة الجدل، وتصل إلى أسماع صاحب المحل الذى يأتى مسرعا ليحسم الموقف، معنفا الموظف المتهور متهما إياه بالجهل والجليطة وقلة الذوق وسوء التربية، معتذرا للزبون الذى لا يدانيه أحد فى تذوقه للجمال وفهمه العميق للفن الرفيع . ويخرج الزبون منتفخ الاوداج متأبط اللوحة الرديئة، بعد أن امتلأت جعبة غروره بحقبة من النفاق الكاذب والمديح الرخيص،وبعد أن امتلأت جيوب التاجر بالدنانير..واتجه صاحب المتجر إلى الموظف المهزوم صارخا فى وجهه أنت ستخرب بيتى أيها الأحمق..سأصاب بالإفلاس لو حرصت على بقائك أغرب عن وجهى فورا..أنت مفصول. ويخرج فان جوخ غير نادم على فقدان وظيفته، وهو يعلم ما ينتظره من جوع وحرمان ، لكنه يواجه الواقع بشموخ المنتصر وبعزة «دونكيخوتيه» فقد تصرف تصرف المقاتل الشريف وفق ما يمليه عليه ضميره النقى، وفطرته الشفافة وتقديسه للقيم الرفيعة. وتتجسم عظمة العمالقة أمام أعيننا عندما نعجز عن التصرف مثلهم فى مواقف الشجاعة ،ولقد لمست بنفسى كيف يبدو الإنسان قزما ضئيلا فى مأزق الرأى عندما يمتحن دون إنذار بالفصل، أو تهديد بالحرمان فيجبن عن إعلان رأيه بصراحة مختبئا وراء أقنعة المجاملة وستار الحرص على مشاعر الآخرين. وكان ذلك فى يوم جاءنى فيه صديق يتأبط لوحة فى غاية الرداءة من ذلك النوع الذى يباع فى متاجر الفن الهابط . لم أر فى حياتى وجه صاحبى متهللا مثل هذه الدرجة، وهو يقول:أنظر ماذا اشتريت أليست لوحة رائعة ؟! حزر بكم اشتريتها؟ تصور ..لم أدفع فيها سوى جنيه واحد..جنيه واحد والله..أليست صفقة؟! وابتسمت ولم أعلق ..لم أجد ما أقوله ..أحتبس الكلام وراء أسنانى لم أرد أن أفسد عليه سعادته أو أدمر فرحته الطفولية وكل ما أستطعت أن أقوله ..مبروك ..وأنا موقن فى أعماقى أنه لا مبروك ولا حاجة فقد كان الموقف جديراً بالرثاء.!! كان المسكين رغم لقب الدكتوراه الذى يحمله لا يستطيع أن يميز الجيد من الرديء، وحاولت أن التمس له..فتذوق الفن مشوار طويل وشاق يحتاج إلى ثقافة عريضة وقل عتيد للذوق ومعاناة التسلق، والتشبث بالمرتفعات والقمم رياضة عنيفة..وخطيرة..ولكن هل استطعت أن أجد لنفسى مبرر عدم مصارحته بحقيقة اللوحة مثلما فعل فان جوخ ؟ هذا ما لم أفعله..ولذلك كان فان جوخ عملاقا فى شجاعته مثلما كان عملاقا فى فنه.