جمع ابن المسيب بين الحديث والفقه والزهد والورع ويقال له «فقيه الفقهاء»، كان رجلاً وقوراً له هيبة عند مجالسيه فكان يغلب عليه الجد عفيفاً معتزاً بنفسه لا يقوم لأحد من أصحاب السلطان ولا يقبل عطاياهم ولا هداياهم ولا التملق لهم أو الإقتناع بهم ، وكان يعيش من التجارة فى الزيت. ومن مواقفه العجيبة في مدينة رسول الله «صلى الله عليه وسلم». هو رجل اجتمعت فيه ثلاث خصال .. الواحدة منها خير من الدنيا وما فيها، أولها: المحافظة على تكبيرة الإحرام مع الإمام، فلم تفته ستين سنة ، وثانيها أكل الحلال فما أكل لقمة إلا علم مصدرها ، والثالثة صرامته فى الحق ولو غضب من غضب ولام من لام .. إنه سيد فقهاء المدينة والتابعين «سعيد بن المسيب بن حزن بن أبى وهب المخزومى القرشى» (637-517 م / 14-94ه) ، كنيته أبو محمد ولد لسنتين من خلافة عمر بن الخطاب.. عرف عنه الصمت عن كل لغو، والكف عن كل لهو، الزهد في كل فان. تفقه في الدين، وعرف رب العالمين، فأنفق ساعاته في رضى مولاه وفي طاعة خالقه، لما عرف ربه طرح الناس، وجانب الخلق. عرضوا عليه المال فأبى، هددوه بالسيف فرفض، ساوموه بكل حيلة فقاوم.. أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، حتى أصبح الموت من روحه قاب قوسين أو أدنى، قام الليل حتى احدودب ظهره ورق عظمه، من الفجر إلى الظهر جلسة واحدة مستقبلاً القبلة في المسجد، يتلو، ويسبح، ويتفكر، ويعلم، ويفتي. كان ابن المسيب ينام متعباً، فإذا أمعنت نفسه في نوم عميق صاح بها وسط الليل: قومي يا مأوى كل شر، فيباشر الماء البارد، ويصف قدميه، ويترك التعبير لعينيه، لتتحدث عن ذكريات القلب، وشجون النفس، وخلجات الضمير، وكانت أحلى جلسة عند سعيد بن المسيب جلسة الثلث الأخير، يوم ينادي الحق: (هل من سائل فأعطيه ، هل من داع فأجبه ، هل من مستغفر فأغفر له) ، حينها تجد كفى سعيد بن المسيب ترتعشان وعيناه تذرفان ، وهو دائم الخفقان . ضعف بصره وما ترك صلاة الجماعة حتى في شدة الظلمة, وتاجر في الزيت ليصون وجهه عن السؤال،وعرضه عن النوال، ولا يخضع للرجال. العلم عنده نص صحيح، وآثار من سلف، وفهم للدليل، والزهد عنده طرح التبذل،والاستعلاء على الاستجداء, فقال عنه واصفوه: مراد الله أعظم من مراده وزاد الآخرة كل زاده وهمه نفع العباد.. قرن العلم بالعمل، والخوف بالرجاء، والرغبة بالرهبة، والتواضع بعزة النفس. لم يجد إليه الشيطان سبيلاً؛ لأنه تحصن منه بتوحيد خالص وذكر دائم وطهارة مستمرة وعمل دائب في الخير لدرجة أنه رفض الخروج لوادي العقيق لرؤية الخضرة بعد إصابته في عينيه خشية أن تفوته صلاة الجمعة.. تزعم «سعيد بن المسيب» مدرسة الحديث التى قامت فى الحجاز تحديداً فى المدينةالمنورة، لعلمه الغزير بالأحاديث النبوية الشريفة وتمسكه بالعمل بها، وكان من أهل علم الفقه، والتفسير القرآنى، ويعتبر سيد فقهاء المدينة والتابعين ، روى عن عدد من الصحابة وبعض أمهات المؤمنين وكان أعلم الناس بقضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقضاء أبى بكر وعمر بن الخطاب حتى قال عن نفسه «ما أحد أعلم بقضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أبو بكر وعمر منى». جمع بن المسيب بين الحديث والفقه والزهد والورع ويقال له «فقيه الفقهاء»، كان رجلاً وقوراً له هيبة عند مجالسيه فكان يغلب عليه الجد عفيفاً معتزاً بنفسه لا يقوم لأحد من أصحاب السلطان ولا يقبل عطاياهم ولا هداياهم ولا التملق لهم أو الإقتناع بهم ، وكان يعيش من التجارة فى الزيت. ومن مواقفه العجيبة في مدينة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات يوم كان هناك شيء لا يدرى أحداً ما هو إن الناس قد خرجوا للطريق, والنساء أطللن من شقوق النوافذ, إنهم يرقبون شيئاً... يرقبون موكب المندوب الخاص لعبد الملك بن مروان قادماً بمهمة لا يدرون ما هي. وصل الموكب وأسرع إلى المسجد ووقف المندوب على حلقة سعيد بن المسيب, فأبلغه سلام أمير المؤمنين وأنه قادم يخطب منه ابنته الى ولي عهد المسلمين الوليد بن عبدالملك وظن الناس أن سعيدً سيطير من الفرحة وبهتوا عندما قال سعيد للمندوب(لا) . وتمر أيام, وكان لسعيد تلميذ اسمه أبو وداعة قوي الدين رضي الخلق, انقطع عن الدرس فترة ثم جاء, فسأله عن سبب انقطاعه, فأخبره بأن زوجته مرضت فجلس بجانبها يرعاها ويعتني بها ثم توفيت, فسأله سعيد: هل تزوجت غيرها, قال: ومن يزوجني وأنا لا أملك إلا أربعة دراهم? فقال سعيد: أنا أزوجك, شده الرجل وكذب أذنيه وعقدت المفاجأة لسانه وحسب نفسه في منام, ولكن سعيدً دعا بالشهود وعقد العقد, وذهب الرجل الى داره وهو لا يزال في حمى الدهشة, وقدم عشاءه وكان خبزاً وزيتاً, وإذا بالباب يقرع, قال من? قال: سعيد .. يقول أبو وداعة: ومر على بالي كل سعيد في الدنيا إلا سعيد بن المسيب, لأنه لم يطرق باب أحد منذ أربعين سنة ولم ير إلا بين بيته والمسجد, ففتح له .. ، فقال بن المسيب : كرهت أن يسألني الله عن وحدتك ولك زوجة فجئت بها, ودفع العروس. قال أبو وداعة رحمك الله: ألا انتظرت حتى أحصل مالاً وأعد للعرس عدته, قال: أما قلت إن معك أربعة دراهم? قال أبو وداعة: لما خلوت بها رفعت الغطاء عن وجهها فإذا هي قمر الزمان أجمل امرأة وأكملها, ولما أصبحت بدلت ثيابي وهممت بالخروج قالت لي: إلى أين? قلت: الى حلقة سعيد, قالت: اجلس أعلمك علم سعيد, فإذا هي عالمة محدثة, وكان العلماء اذا أعيتهم مسألة رجعوا إليها. لذلك كانت علاقة ابن المسيب بالولاة والحكام علاقة يشوبها التوتر والتربص بالمدينة فى خلافة «الوليد بن عبد الملك»، وقد تتلمذ على يده كثير من علماء الحجاز وغيرهم ، وتعلموا منه طريقته فى استباط الأحكام ، ثم تفرقوا فى المدن والأمصار ليقفوا على الأحاديث التى لم يروها علماء المدينةالمنورة وزوجته هى أم حبيب الدوسية بنت أبى هريرة. ومما يدل على شدة حرصه على الصلاة فى جماعة حيث قال «من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة»، وقال أيضاً: « ما فاتتني الصلاة في الجماعة منذ أربعين سنة. كما كان يسرد الصوم ، وكذلك الحج الذي بلغ أربعين حجة. ومن أقوال سعيد بن المسيب: إن الدنيا نذلة، وهي إلى كل نذل أميل، وأنذل منها من أخذها بغير حقها، وطلبها بغير وجهها، ووضعها في غير سبيلها. ومن أقواله أيضا: من استغنى بالله افتقر الناس إليه. .. هكذا كانت حياة «سعيد بن المسيب» رحمه الله مليئة بالمتاعب والمشاحنات، فقد تعرض للسجن والجلد والمقاطعة ، وتعرض للقتل نتيجة لموقفه من أحداث عصره فقد كان الأمويون والزبيريون يتنازعون على الحكم فى أيام سعيد بن المسيب ، وكانت المدينة أحياناً تحت حكم الأمويين وأحياناً تحت حكم الزبيريين وكان الوالى يحاول أن ينفذ سياسة الجهة التى ينتمي إليها ، ولم يكن سعيد راضياً عن هؤلاء أو هؤلاء .