كنا على مسافة واحدة من كل شيء.. الحلم والواقع، الموت والحياة، النور والظلام.. كل المفردات في الكون تجمعت في الغرفة الصغيرة التي توسطها أبي يقف بجلال وبجواره أمي تنظر له في إعجاب، وأنا أصغر إخوتي أختبئ وراء أخي الأكبر وأسترق النظر لما يحدث في فضول.. بفخر أخبرنا أبي أنه أخيرًا قبض على الخوف بعد أن ظل يطارده لسنوات طويلة. أنظر في فضول إلى الكائن المربوط بعمود السرير وأرتجف في داخلي لِما أرى.. كانت له عين واحدة تدور حول نفسها في سرعة، وجسده مثل ظل أسود يتحول في كل ثانية إلى شكل مختلف.. لا أعرف كيف قبض أبي عليه، ولكنه اصطحبنا إلى خارج الغرفة بعد أن أغلقها وقال لنا: "الآن سيدخل كل منكم إلى الغرفة ويغلق الباب ولن يخرج قبل أن يواجه خوفه ويعرف يقينًا أن الخوف قد انهزم". *** سنين طويلة مرت منذ أن حبس أبي الخوف في ذلك الصندوق الخشبي الساكن تحت سريره.. سنين طويلة مرت منذ تلك الليلة التي مازلت أشك في كونها حدثت فعلاً.. ربما كان كل ما حدث هو حلم. ربما هي كانت خدعة ما من أبينا الذي عهدناه دومًا جادًا صارمًا.. ربما كانت معجزة منه مثلما أحضر السيد البدوي الأسرَى ومثلما يسافر أولي الخطوة من مكان لآخر.. ربما كان أبي أحد الأولياء رغم أني لم أره يصلي قط! لا أعلم لماذا تطاردني ذكرى تلك الليلة في احلامي منذ أسبوع.. كل يوم أصحى فزعا بعد أن أدخل الغرفة واقترب من الصندوق.. لذلك قررت أن أزور بيتنا القديم لأتخلص من ذلك الحلم المزعج. *** دخل أكبر إخوتي أولًا.. كان دائمًا يخبرنا أنه لا يخشى شيئًا.. ولكنه عندما خرج كان ممتقع الوجه.. حزنه يطغى على ملامحه.. لأول مرة تغيب الابتسامة الظافرة من وجهه.. خرج متباطئ الخطى.. ينظر إلينا ولا يرانا.. ثم خرج مهرولًا إلى الخارج دون أن يتحدث مع أحد. عرفت فيما بعد أنه ذهب لكل من أذاهم ولم يتركهم إلا حين أقسموا له أنهم قد سامحوه على كل شيء.. ذهب إلى دكان "عم سلامة" وعرض على صاحب الدكان الكفيف أن يعمل لديه شهرًا كاملًا دون أجر لأنه منذ أشهر قد سرق حفنة من الحلوى مستغلًا عاهة صاحب الدكان.
ولكن "عم سلامة" أخبره أنه يعرف، وأنه رآه، وقد سامحه منذ زمن. *** أذكر تفاصيل تلك الليلة جيدًا، وأذكر أيضًا أن أخي ظل يبكي لليالٍ طويلة بعدها. لم يكن حُلمًا إذن.. ربما هلوسة جماعية أراد أبونا بها أن يعلمنا شيئًا ما.. فهو كان دائمًا يرى أن هناك شيئًا ينقصنا، وأن تربيتنا ليست سوية.. لم يكن أبي يصلي كما ذكرت من قبل، لكنه لم يعترض قط على ضرب أمي لنا من أجل أن نصلي. كان ينظر لها باستغراب واستنكار، لكنه لم يعترض قط. كان أبي - عندما يكون رائق البال - يحكي لنا قصصًا مثيرة عن كائنات قديمة نصبت نفسها آلهة فوق جبل ما، وعن بشر أبطال اعترضوا طريق الآلهة وإرداتها من أجل الفوز بحسناء ما أو من تكأحل فرض إرادتهم الخاصة. لم يحدثنا أبي في أمور الدين قط، بل كانت عيناه تكذبان أحيانًا ما تحكيه أمي لنا، ولكنه لم يعترض أبدًا، كأن هناك اتفاقًا ما. *** أختي الرقيقة هي أحب الكائنات إلى في هذا العالم.. كنت دائمًا أأتمنها على كل أسراري الصغيرة التي لم تكن تساوي شيئًا لأي أحد سواي. وقفت مرتبكة أمام الباب الخشبي.. لا تريد الدخول، ولكن نظرات أبي الصارمة الحانية كانت أقوى من إرادة أختي الضعيفة، وأعلى صوتًا من صرختها الرافضة. لا أريد لها أن تدخل، ولكني وقفت صامتًا أشاهد ما يحدث.. خطت أختي داخل الغرفة المخيفة، أرسلت آخر نظرات الاستغاثة إليَّ، ولكنها قابلت العجز في عيني.. وأغلق أبي الباب. مرت دقيقتان قبل أن تخرج أختي صارخة وهي تبكي، وارتمت في حضن أمي وهي تصرخ "أرجوك.. لا تفعل ذلك". حكت لي أختي ماذا رأت في الغرفة.. كانت صديقاتها يحكين لها عن تلك العملية المريعة التي يتم فيها قطع جزء من جسدها بحجة العفاف والطهارة.. داخل الغرفة رأت أختي كل شيء.. رأت نفسها مقيدة تصرخ، ويد الممرض الغليظة تمسك بمقص صدئ ويقترب منها وهو يبتسم كاشفًا عن أسنان صفراء قبيحة. *** دمعت عيناي عندما تذكرت أختي وما حدث لها بعد ذلك. ذات ليلة صافية هادئة كان أبي في إحدى تلك الحالات المزاجية الرائقة وأخذ يقص علينا قصة بكل مغوار من أولئك الأبطال الذين تحدوا آلهتهم عندما تحدثت أمي عن ضرورة ختان أختي، فقد بلغت العاشرة من عمرها، وهو سن كبير بالفعل، حيث كان يجب أن تقوم بها مبكرًا، ولكن لم يفت الوقت بعد. احمر وجه أبي في غضب واستنكار وقال لأمي إنه لن يسمح لأحد أن يمد يده على ابنته، ولكن أمي أخبرته أن شريطة زواجهما الوحيدة أنه لن يتدخل مطلقًا في تربية أطفالهم. اختبأت أختي خلف أبي وانتهت الليلة الرائقة بمشادة كلامية شديدة بين أبي وأمي. بعد يومين، وفي أثناء غياب أبي جاء رجل غريب إلى المنزل ومعه حقيبة سوداء بغيضة.. وضع سيجارة بين أسنانه الصفراء القبيحة وسأل "أين العروسة؟". بحثنا كثيرًا عن أختي في أرجاء المنزل قبل أن نرى خط الدماء السائل من أسفل باب الحمام. مازالت نظرة الخوف الأخيرة التي سكنت وجه أختي تطاردني حتى الآن.. *** لم يبقَ غيري، ومازالت أختي ترتعش في حضن أمي وتصرخ "أرجوك لا تفعل.. أرجوك". نظر أبي إليَّ في قلق، ولكني أومأت له في موافقة.. دون تردد أدرت مقبض الباب.. أعطيت لهم ظهري دون أن أنظر في الغرفة.. أغمضت عيني وأغلقت الباب عليَّ.. لم أنظر قط.. أخذت أتنفس ببطء، وأعد الثواني البطيئة حتى مر وقت معقول.. فتحت الباب الذي لم أتحرك من أمامه قط، ورسمت القلق على وجهي وخرجت. *** لم يسألني أبي قط عما رأيت.. في الواقع لم يسأل أيًّا منا. فقط دخل بعد أن خرجت، ووضع الخوف في الصندوق الخشبي وأغلقه جيدًا، ووضع الصندوق تحت فراشه.. أبي الذي اعتاد أن ينام فوق الخوف كل ليلة لم يسأل أيًّا منا عما يخشاه.. ولكني سألته. كان على فراش المرض، وكان يعلم أنه سوف يموت.. كنت بجواره.. كنت وحدي بعد أن طلَّق أمي بلا رجعة رغم عشقه اللامتناهي لها، وبعد أن سافر أخي متجولًا كدرويش في أنحاء الأرض، وبعد أن انتحرت أختي خوفًا من رجل غريب جاء ليقطع جزءًا من جسدها يقدمه كقربان. نظر لي مبتسمًا وأخبرني أنه يعلم اني لم أنظر داخل الغرفة.. قال لي إنه ربما هناك حكمة فيما فعلت. سألته عما رأى في تلك الغرفة.. كلي فضول لأعرف ماذا رأى هذا الرجل الشديد. حينما سألته عن ذلك نظر إليَّ طويلًا.. وأخبرني.
أخبرني بسره الأعظم.. ثم مات. *** أخيرًا وصلت المنزل.. مر زمن منذ أن مات أبي، ولكن مازالت كلماته الأخيرة تتردد في ذهني.. لم يعد أحد يسكن المنزل.. منذ أن خطت قدمي داخله شعرت لأني عدت طفلًا عمره ثماني سنوات يملأ الفضول كيانه كله.. سمعت ضحكات أختي الرائقة وحكايات أبي.. اتجهت إلى الغرفة المشئومة التي بدأت منها كل المصائب. في منتصف المسافة من كل شيء الشك واليقين.. الإيمان والكفر.. النور والظلام. مدت يدي أسفل السرير، وأخرجت الصندوق الخشبي.. "لقد رأيت.. لقد رأيت الله يا بني". كانت تلك آخر كلمات أبي.. كان هذه سرُّه الوحيد والأخير.. كان المفتاح معلقًا في مكانه الأزلي أمام صورة أبي الباهتة.. دار المفتاح في القفل، كأن كل تلك السنين لا تعني له شيئًا.. فتحت الصندوق ليخرج الخوف المحبوس منذ زمن، ولكنه كان فارغًا... كان الصندوق فارغًا.. وكنت أنا خائفًا.. خائفًا حتى الموت.