بعد ثورة 30 يونيو عام 2013، احتفى البسطاء من أفراد الشعب المصرى برجال الشرطة، وحملهم البعض على الأعناق وطاف بهم الشوارع والميادين، في إشارة واضحة على "المصالحة" بين الطرفين.. وحرصت قيادات وزارة الداخلية وضباطها وأفرادها، على تأكيد احترامهم الكامل للشعب، وأن الشرطة في ثوبها الجديد، لن تظلم بريئا ولن تسئ لمواطن، وأن هدفها الأسمى هو حفظ الأمن، وصون كرامة المصريين وعدم المساس بحرياتهم، وتطبيق القانون والإلتزام به وعدم التجاوز في حق أحد.. ولكن مع مرور الوقت عادت بعض الممارسات غير المقبولة لرجال الأمن.. صحيح أن تلك الأحداث لا تزيد عن كونها تصرفات فردية، غير أن تكرارها أعطى انطباعا بأن الداخلية، عادت إلى سابق عهدها قبيل ثورة 25 يناير 2011، وأنه لا أمل في إصلاحها. هذا الإنطباع السيئ ترسخ بقوة لدى البعض، وانتقل إلى آخرين بعد يوم 25 أبريل الماضى، والذي شهد حملات اعتقال واسعة، لنشطاء وأعضاء في أحزاب وحركات سياسية، خلال مشاركتهم في مسيرات وتظاهرات، رافضة لاتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والمملكة العربية السعودية، وداخل أقسام الشرطة فوجئ بعضهم بقائمة طويلة من الاتهامات من بينها: الانضمام إلى جماعة إرهابية، والتحريض على التظاهر وإتلاف الممتلكات العامة، والدعوة لتعطيل القوانين وقلب نظام الحكم بالقوة، وتعطيل العمل بالدستور. وعلى الرغم من صدور قرارات من النيابة العامة بإخلاء سبيل بعض الموقوفين، بناء على تحريات أمنية، تؤكد عدم تورطهم في أي جرائم يعاقب عليها القانون، إلا أن سلطات الأمن استمرت في احتجازهم لفترات طويلة، بحجة إنهاء الإجراءات.. هذه الممارسات وغيرها، تسببت في حالة من "الغليان" بين مجموعات كبيرة من المصريين، وبدأت تطالب بتغييرات جذرية في أسلوب تعامل أجهزة الأمن مع المواطنين، قبل أن تتفاقم الأوضاع ويحدث ما لا يحمد عقباه.. "فيتو" في الملف التالى ترصد بعض حالات الاحتجاز داخل أقسام الشرطة، وطريقة التعامل مع أبطالها من الشباب. 1- "محمود".. مأساة "طفل" متهم بالتخطيط لقلب نظام الحكم "محمود" صبى لم يتجاوز عمره الستة عشرة عاما، وهو الابن الوحيد لأسرة متوسطة الحال.. عشق النادي الأهلي وأصبح واحدا من مشجعيه المتحمسين، ولم يخطر على باله قط أن تشجيعه لفريق كرة قدم، سيكون سببا في دخوله قسم الشرطة واحتجازه لأيام طويلة مع البلطجية والقتلة وتجار المخدرات.. حكاية "محمود" بدأت عندما خرج من منزله في أحد أحياء القاهرة، لمقابلة والده للذهاب معا إلى السجل المدنى لاستخراج بطاقة الرقم القومى، وفى الطريق جلس بجوار أمين شرطة في "ميكروباص".. سأل الأمين على مكان السجل وتجاذب الإثنان أطراف الحديث.. لاحظ الشرطى سلسلة في عنق الصبى تحمل شعار "ألتراس" النادي الأهلي، فسأله: "انت منتمى للألتراس؟".. وأجاب محمود: "أنا بحب الأهلي وبشجعه بس أنا معرفش حد في الألتراس ومش منتمي للجروب.. ولو جت فرصة ممكن أنضم ليهم علشان انا بحب الأهلي". طلب أمين الشرطة من سائق الميكروباص التوقف وطلب من الصبى النزول معه بحجة أنه وصل إلى السجل المدنى.. وبمجرد خروجهما من السيارة، اختطف أمين الشرطة "السلسلة" من عنق محمود، وأخذ منه تليفونه المحمول، وهنا حدثت مشادة كلامية بين الطرفين، انتهت باقتياد الصبى إلى قسم الشرطة.. داخل القسم تم تحرير محضر تضمن عدة اتهامات بالغة الخطورة للشاب أبرزها: الانضمام إلى جماعة إرهابية، والدعوة إلى التظاهر وتخريب منشآت الدولة، وتعطيل المرور، والتحريض ضد رجال الشرطة، وتجميع أسلحة بغرض استخدامها ضد رجال الأمن وإثارة الفوضى والعنف في الشارع.. لم يستوعب الصبى ما يحدث لصغر سنه، وبعد ساعات طويلة من الاحتجاز مع أرباب السوابق ومعتادى الإجرام، تم عرضه على النيابة العامة، التي واجهته بالاتهامات المدونة في محضر الضبط، وأنكرها جميعا مؤكدا أن كل ما يفعله هو تشجيع النادي الأهلي، لا أكثر ولا أقل، ولا يعرف شيئا عن التظاهر ولا الجماعات الإرهابية وغيرها من التنظيمات المتطرفة، بل وليست له علاقة بالسياسة من قريب أو بعيد، ورغم ذلك أصدرت النيابة قرارا بحبسه 4 أيام على ذمة التحقيقات، وعاد إلى محبسه مرة أخرى. ظل "محمود" في "التخشية" لأربعة أيام مرت عليه كالدهر، وخرج مرة أخرى للعرض على النيابة العامة، وأعادت التحقيق معه وأيضا أكد أنه لا علاقة له بالألتراس أو أية جماعات إرهابية متطرفة، ولا يعلم شيئا عن الأسلحة.. ولكنه فوجئ بقرار صادم يقضى بتجديد حبسه 15 يوما أخرى على ذمة التحقيق.. بعد انقضاء هذه المدة الطويلة، تم عرضه على الجهات القضائية المختصة، فأصدرت قرارا بإخلاء سبيله، استنادا إلى تحريات أمنية تؤكد أنه لا يمثل خطورة على الأمن، ولا ينتمى لأى تيارات سياسية أو جماعات معادية للدولة.. تهللت أسارير الصبى وظن أن محنته انتهت إلى غير رجعة، إلا أن المسئولين في قسم الشرطة، رفضوا الإفراج عنه، بحجة أن هناك بعض الإجراءات القانونية لا بد من استكمالها، وبهذه الحجة تم احتجازه لثلاثة أيام أخرى، بعدها تم عرضه على ضابط من جهة أمنية، والذي تحدث معه بلهجة تشبه التهديد، وطالبه بعدم الجلوس في المقاهى، أو التواصل مع أي شخص ينتمى لتيارات سياسية، وحذره من الإنخراط في أنشطة الألتراس حتى لا يتم القبض عليه مرة أخرى، وتقديمه للمحاكمة، وبعد هذه الجلسة خرج محمود إلى منزله بعد تجربة قاسية ستظل علقة في ذهنه لسنوات طويلة، وربما لن ينساها طوال عمره. 2- "جاد".. من الورشة للتخشيبة والتهمة "إرهابى" خرج "جاد" كعادته كل يوم إلى ورشة الميكانيكا التي يعمل بها.. وقبل أن يبدأ عمله جلس برفقة بعض أصدقائه يتجاذبون أطراف الحديث عن العمل وضغوط الحياة والمسئوليات المتزايدة وطلبات الأبناء التي لا تنتهى.. فجأة توقفت سيارتا شرطة أمام الورشة، ونزل منها ضابط وأمينى شرطة، واقتادوا جاد وصديق له إلى "القسم".. حاول الميكانيكى وصديقه الاستفسار عن سبب القبض عليهما، ولكن لم يجبهما أحد.. تم إيداعهما الحجز منذ التاسعة صباحا تقريبا دون تهمة محددة أو سبب واضح للاحتجاز.. في نحو التاسعة مساء تم فتح باب الحجز، فتح أمينا شرطة وضابط الحجز، وتحدث الأخير مع جاد ورفيقه موضحا أنهما متهمان بالتخطيط لقلب نظام الحكم، والتحريض على تظاهرات تكدر السلم العام وتهدد الأمن، وتضر بالوحدة الوطنية، وتمويل مظاهرات دعت إليها جماعات إرهابية، وحيازة أسلحة نارية لاستخدامها في ترويع الآمنين، والتعدى على رجال الشرطة، وحيازة مقاطع فيديو لاعتصامات مسلحة لجماعة الإخوان الإرهابية.. وسيتم عرضهما على النيابة العامة لتقرر مصيرهما. وقعت الكلمات كالصاعقة على مسامع جاد وعجز لسانه عن النطق من وقع الصدمة عليه.. فهو رجل في منتصف العقد الرابع من العمر، لم يهتم يوما بالسياسة ولم يخرج في مظاهرة.. كل همه هو العمل ليلا ونهارا كى يوفر سبل الحياة الكريمة لزوجته وأطفاله الأربعة.. بعد يومين من الاحتجاز تم عرضهما على النيابة، وبعد أن اطلع وكيل النائب العام على الأوراق والمحاضر المقدمة من رجال الشرطة، قرر احتجاز الميكانيكى ورفيقه وطلب تحريات تكميلية تتم عن طريق جهاز الأمن الوطنى.. عادا إلى حجز قسم الشرطة مرة أخرى، وقد تملكهما رعب شديد خشية أن تؤكد التحريات الاتهامات الموجهة إليهما، وفى اليوم التالى تم عرضهما على النيابة مرة أخرى، فقررت إخلاء سبيلهما بالضمان الشخصى، بعد أن أكدت تحريات الأمن الوطنى عدم صحة الاتهامات الموجهة إليهما.. الغريب أنه عندما عادا إلى قسم الشرطة، لإنهاء إجراءات إخلاء السبيل، تم احتجازهما مرة أخرى داخل التخشيبة، لمدة يومين كاملين، انتظارا لقدوم ضابط من الأمن الوطنى كى يجلس معهما ويناقشهما في بعض الأمور.. وبعد 5 أيام من الاحتجاز خرج الاثنان بعد تجربة مريرة لم تخطر على بالهما قط. "نقلا عن العدد الورقي.."