كان محمد صلى الله عليه وسلم عطوفا يرأم من حوله ويودهم ويدوم لهم على المودة طوال حياته، وإن تفاوت ما بينه وبينهم من سن وعرق ومقام، كان صبيا فى الثانية عشرة يوم سافر عمه، فتعلق به حتى أشفق العم أن يتركه وحده فاصطحبه فى سفره، وكان شيخا قارب الستين يوم بكى على قبر أمه بكاء من لا ينسى وليس فى سجل المودة الانسانية أجمل ولا أكرم من حنانه على مرضعته حليمة ومن حفاوته بها وقد جاوز الأربعين، فيلقاها هاتفا بها: أمى ! أمي! ويفرش لها رداءه ويمس ثديها بيده.. كأنه يذكر ما لذلك الثدى عليه من جميل، ويعطيها من الإبل والشاه ما يغنيها فى السنة الجدباء.. ولقد وفدت عليه هوازن وهى مهزومة فى وقعة حنين وفيها عم له من الرضاعة.. لأجل هذا العم من الرضاعة تشفع النبى إلى المسلمين أن يردوا السبى من نساء وأبناء، واشترى السبى ممن أبوا رده إلا بمال وحضنته فى طفولته جارية عجماء فلم ينس لها مودتها بقية حياته، وشغله أن تنعم بالحياة الزوجية ما يشغل الأب عن أمر بناته ورحمه فقال لأصحابه: «من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن.. وما زال يناديها يا أمة يا أمة كلما رآها وتحدث إليها، وربما رآها فى وقعة قتال تدعو الله وهى لا تدرى كيف تدعو بلكنتها الأعجمية، فلا تنسيه الوقعة أن يصغى إليها ويعطف عليها. وكان هذا عطفه على كل ضعيف ولو لم يذكره بحنان الطفولة ورحم الرضاع فما نهر خادما ولا ضرب أحدا، وقال أنس: «خدمت النبى صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لى أف قط، ولا قال لشئ صنعته: لم صنعته؟.. ولا لشئ تركته: لم تركته..» وكان من أضحك الناس وأطيبهم نفسا، صافى القلب إذا كره شيئا رؤى ذلك فى وجهه وإذا رضى عرف من حوله رضاه، وقد اتسع عطفه حتى بسطه للأحياء جميعا ولم يقصره على ذوى الرحم من الناس ولا على الناس من غير ذوى الرحم، فكان يصغى الإناء للهرة لتشرب، وكان يواسى فى موت طائر يملكه أخو خادمه، وأوصى المسلمين «إذا ركبتم هذه الدواب فأعطوها حظها من المنازل ولا تكونوا عليها شياطينا» وكرر الوصاية بها أن «اتقوا الله فى البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة». وقال: «إن الله غفر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركى يلهث قد كاد يقتله العطش.، فنزعت خفها فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك». وقال فى هذا المعنى: «دخلت امرأة النار فى هرة ربطتها فلا هى أطعمتها، ولا هى تركتها تأكل من خشاش الأرض». لا بل شمل عطفه الأحياء والجماد كأنه من الأحياء، فكانت له قصعة يقال لها الغراء، وكان له سيف محلى يسمى ذا الفقار، وكانت له درعا موشحة بنحاس تسمى ذات الفضول، وكان له سرج يسمى الداج وبساط يسمى الكز وركوة تسمى الصادر، ومرآة تسمى المدلة، ومقراض يسمى الجامع، وقضيب يسمى الممشوق. وفى تسمية تلك الأشياء بالأسماء معنى الألفة التى تجعلها أشبه بالأحياء المعروفين ممن لهم السمات والعناوين، كأن لها «شخصية» مقربة تميزها بين مثيلاتها كما يتميز الأحباب بالوجوه والملامح وبالكنى والألقاب. هذه العاطفة الانسانية التى رحبت حتى شملت كل ما أحاطت به وأحاط بها لم تكن هى كل أداة الصداقة فى تلك النفس العلوية بل كان معها ذوق سليم يضارعها رفعة ونبلا ويتمثل - فيما يرجع إلى علاقات النبى صلى الله عليه وسلم بالناس - فى رعاية شعورهم أتم رعاية وأدلها على الكرم والجود.. «كان إذا لقيه أحد من أصحابه فقام معه قام معه، فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذى ينصرف عنه، وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول يده ناوله إياها فلم ينزع يده منه حتى يكون الرجل هو الذى ينزع يده منه..». «وكان إذا ودع رجلا أخذ بيده فلا يدعها حتى يكون الرجل هو الذى يدع يده... وكان أرحم الناس بالصبيان والعيال». ..«وإذا قدم من سفر تلقى بصبيان أهل بيته». «وكان أشد حياء من العذراء فى خدرها، وأصبر الناس على أقدار الناس». يحفظ مغيبهم كما يحفظ محضرهم ويقول لصحبه: «من اطلع فى كتاب أخيه بغير أمره فكأنما أطلع فى النار». ومع العاطفة الانسانية والذوق السليم والأدب الكريم: سمت جميل ونظافة بالغة وحرص على أن يراه الناس فى أجمل مرآه. ومع هذا كله أمانة يثق بها العدو فما بال الصديق؟!.. وحسبك من ثقة الناس به ما أودعوه من أمانات وهم يناصبونه العداء فلم يخرج للهجرة وهو مهدد فى سربه حتى رد الأمانات إلى أصحابها، وقد يكون فى ردها ما ينبههم إلى خروجه، ويأخذ عليه سبيل النجاة، وهذا إلى اشتهاره بالأمانة فى صباه حتى سمى بالأمين قبل أن يتجرد لدعوة تنبغى لداعيها أمثال هذه الصفات. كل هذه المزايا النفسية - بل بعض هذه المزايا النفسية- خليق أن يتم لصاحبه أداة الصداقة أوفى تمام، وأن يجعله محباً لمن حوله جديرا منهم بأحسن حب وولاء. فلم يعرف فى تاريخ العظمة - لا بين الأنبياء ولا غير الأنبياء- انسان ظفر بنخبة من الصداقات على اختلاف الأقدار والبيئات والأمزجة والاجناس كالتى ظفر بها محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف عن انسان أنه أحيط من قلوب الضعفاء والأقوياء بما يشبه الحب الذى أحيط به هذا القلب الكبير. حديث زيد بن حارثة الذى خطف من أهله وهو صغير ثم اهتدى إليه أبوه واهتدى هو إلى أبيه على لهفة الشوق بعد يأس طويل، فلما وجب أن يختار بين الرجعة إلى آله وبين البقاء مع سيده «محمد» اختار البقاء مع السيد على الرجعة مع الوالد، وشق عليه أن يحتجب عن ذلك القلب الذى غمره بحبه ومواساته، وهو ضعيف شريد لا يرى ذويه ولا يدرى من هم ذووه وكان لا يغنى من لازموه أن يلزموه فى الحياة حتى يثقوا من ملازمتهم إياه بعد الممات، فضعف مولاه ثوبان ونحل جسمه وألح عليه الحزن فى ليله ونهاره، فلما سأله السيد العطوف يستفسره علة حزنه ونحوله قال فى طهارة الأبرار: «إنى إذا لم أرك اشتقتك واستوحشتك وحشة عظيمة، فذكرت الآخرة حيث لا أراك هناك لأنى أن دخلت الجنة فأنت تكون فى درجات النبيين فلا أراك» ورويت هذه القصة فى أسباب نزول الآية الكريمة: «ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا» وأدرك الموت بلالا فأحاط به أهله يصيحون وا كرباه وهو يجيبهم: «وا طرباه.. غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه..!» على أننا نلمس دلائل هذا الفؤاد الرحب وهذا العطف الانسانى الشامل فى معاملته لأعدائه وشانئيه فضلا عن معاملته للأصفياء، ومن ليس بينهم وبينه عداء ولا صفاء.. فما ثأر من أحد أساء إليه فى شخصه وقد عفا عن رجل همّ بقتله وهو نائم ورفع السيف ليهوى به فسقط من يده على كره منه، وما حارب قط أحدا كان فى وسعه أن يسالمه ويحاسنه ويتقى شره. ومعاملته لعبد الله بن أبى الذى كان المسلمون يسمونه رأس النفاق مثل من أمثلة الاغضاء والصفح الجميل فقد عاهد وغدر ثم عاهد وغدر، وعاش ما عاش يكيد للنبى فى سره ويمالئ عليه أعداءه، وشاع أن النبى عليه السلام قضى بقتله فتقدم ابنه وقال له: «يا رسول الله إنه بلغنى أنك تريد قتل عبد الله بن أبى فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرنى به فأنا أحمل إليك رأسه.. فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده مني، وإنى لأخشى أن تأمر به غيرى فيقتله فلا تدعنى نفسى أنظر إلى قاتل أبى يمشى فى الناس فأقتلهه فأقتل رجلا مؤمنا بكافر فأدخل النار». فأبى النبى أن يقتله وآثر الرفق به، وزاد فى إفضاله وإجماله فكافأ الولد خير مكافأة على خلوص نيته وإيثاره البر بدينه على البر بأبيه. فأعطاه قميصه الطاهر يكفن به أباه وصلى عليه ميتا ووقف على قبره حتى فرغ من دفنه، وقد حاول عمر أن يثنيه عن الصلاة على ذلك العدو الذى آذاه جهد الايذاء فذكر الآية: «.. استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، أن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم...» فقال: «لو أعلم أنى إن زدت على السبعين غفر له زدت». فتح مكة التأمل فى كيفية دخوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة يقدم لنا دليلا عمليا على هذه الرحمة التى جبل عليها، لقد رأينا فيما يرويه البخارى عن عبد الله بن مغفل أنه صلى الله عليه وسلم كان وهو على مشارف مكة يقرأ سورة الفتح ، يرجّع فى تلاوته لها ، والترجيع كيفية فى القراءة يترنم بها القارىء ، وهذا يدل كما نرى أنه صلى الله عليه وسلم كان مستغرقاً فى حالة شهود مع الله تعالى أثناء دخوله مكة ، فما كانت لنشوة النصر والظفر العظيم إلى نفسه من سبيل ولم يكن شيئا من التعاظم أو التجبر ليستولى على شىء من مشاعره ، إنما هو الانسجام التام مع شهود الله تعالى والشكر على نصره وتأييده، ويزيد فى تصوير هذا المعنى ما رواه ابن اسحاق من أنه صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى ذى طوى كان يضع رأسه تواضعاً لله ، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح ، حتى أن لحيته لتكاد تمس واسطة الرحل ، وهذا يعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان مندمجاً فى حالة من العبودية التامة لله تعالى إذ رأى ثمرة القيام بأمر ربه ' ونظر إلى نتيجة كل ما قد كان لقيه من العذاب من قومه ' وكيف أن الله تعالى أعاده إلى البلد التى أخرجته عزيزاً منصوراً مكرماً !.. إنها الساعة التى ينبغى أن تمتلىء بشكر الله تعالى وحده ' وينبغى أن يفيض الزمن كله بمعنى العبودية التامة لله تعالى . كما رأينا كيف كان التدبير الحكيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ' ما أمر به أصحابه من أن يتفرقوا فى مداخل مكة ' فلا يدخلوها من طريق ومدخل واحد ' وذلك بغية تفويت فرصة القتال على أهل مكة إن أرادوا ذلك إذ يضطرون إلى تشتيت جماعاتهم وتبديد قواهم فى جهات مكة وأطرافها فتضعف لديهم أسباب المقاومة ومغرياتها . وإنما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ' حقناً للدماء ما أمكن ، وحفظاً لمعنى السلامة والأمن فى البلدة الحرام ، ومن أجل هذا أمر المسلمين ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم ،وأعلن أن من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن. تأملات فى خطابه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح : والآن. ... ها هى ذى مكة البلدة التى هاجر منها قبل ثمان سنوات ، خاضعة له مؤمنة برسالته وهديه ، وها هم أولاء الذين طالما ناصبوه العداء وساموه أصناف الأذية والعذاب ، مجتمعون حوله فى خشوع وترقب وإطراق فما الذى سيقوله لهم اليوم ؟ إن عليه قبل كل شىء أن يبدأ بالثناء على ربه الذى نصره وأيده وصدق وعده ، وهكذا استفتح خطابه بقوله : لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعهده ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ثم عليه بعد ذلك أن يعلن أمام قريش وغيرهم من سائر الناس عن المجتمع الجديد وشعاره الذى يتجلى فى قوله تعالى :( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ,إذاً فلتدفن تحت أقدام المسلمين بقايا تلك الشعارات الجاهلية العتيقة العفنة ، من التفاخر بالآباء والأجداد ، والتباهى بالقومية والقبلية والعصبية ،والاعتداد بفوارق الشكل واللغة والأنساب فالناس كلهم لآدم ,وآدم من تراب .