أكلت منى سنوات العمر بقية من ذاكرة، فقدت على أثرها اسم أديب عظيم , كنا ندرس له نصا فى الثانوية العامة, يقول فيه « إياك والكذاب, فإنه يقرب إليك البعيد، ويبعد عنك القريب» . والمعنى الذى طرحه الرجل بعبقرية نادرة, مازال يتردد أمامى, كلما رأيت في غفلة من الزمان من اعتلى منصة الإرشاد, والإبلاغ، وربما الدعوة وهو كذاب , يهدف بكذبه لتغييب الحقيقة التي هي كاشفة الكذب, والكذاب هو من يتحدث باسم الإسلام ويخالف أبسط قواعده .. ويقال إن فلان كذاب إذا قال عكس الحقيقة , أو قال ما ليس بحقيقة, كأن يسند إلى نفسه حصوله على ألقاب غير حقيقية ويضع ذلك علي صفحته الشخصية في الفيس بوك مثلا !! وكل امرئ يعد القوى السياسية بأمور يأكلها فيما بعد، يعد كذابا, ويصبح كذابا كل من أدلى بتصريح، ثم أكله, أو هضمه ,أو تجاهله, أو فعل عكسه, فإذا قال لاعب الكرة إنه لن يلعب المباراة القادمة, وفجأة وجدناه في الملعب، أصبح اللاعب كذابا, وإذا قال السياسى إنه فصل فلانا من جماعته، أو حزبه, ثم اتضح أنه لا يزال يديره ,يصبح هذا السياسى كذابا . فى أمريكا وبلاد الكفرة الفجرة يحاسبون المرء علي كذبه, خاصة لو كان في موقع صدارة, وقد قامت الدنيا ولم تقعد ضد بيل كلينتون, ليس لأنه كان على علاقة غير شرعية بالمدعوة مونيكا, وإنما لأنه كذب, وأنكر تلك العلاقة .. وفي بلادنا إذا انتميت إلى جماعة قوية, فإن الكذب يصبح حقا من حقوقك, تقول التصريح ظهرا, وتنكره عصرا, وتنقلب عليه ليلا, وتعود إليه صباحا . والكذاب هو من يوجه تهمة الكذب إلى غيره, ذاكرا حديث الرسول عن حرمة الكذب.. فالكذب حرام، ولا يرخص فيه إلا لضرورة أو حاجة، ويجب أن يكون ذلك في أضيق الحدود، بحيث لا توجد وسيلة أخرى مشروعة تحقق الغرض. ويفاجئك بأن كذبه حلال من خلال وسائل مشروعة تحقق الغرض دون الوقوع في الكذب فيما يسمى بالمعاريض، حيث يستعمل كلمة تحتمل معنيين، يحتاج الإنسان أن يقولها، فيقولها قاصدا بها معنى صحيحا، بينما يفهم المستمع معنى آخر.. وهذا هو الكذب الشرعي الذى يستخدمه الكذاب الذى نقصده, فهو إن قال إنه لا يريد الاستئثار بالسلطة, فقد يعني ذلك أن السلطة هي التي تريد الاستئثار به, وإن قال لك إننا لم نقابل أمريكان، فإن هذا لايعني نفي اللقاء، وقد يعنى أنهم لم يقابلوا أمريكان عاديين بل قابلوا أمريكان مسئولين . والكذاب هو من يناقض نفسه, وينقلب على مجتمعه، ويفعل عكس ما يقول، والكذب فى السياسة مارسه المستشار الألماني الحديدى بسمارك لينقض علي فرنسا، أما الكذب الذي يمارسه «كذاب الدين» فإنه يمارسه لينقض على مصر . وتعد كذبة الملك لويس فيليب الفرنسى، هي الأشهر تاريخيا، عندما أراد استنفار مشاعر الفرنسيين بادعاء أن حاكم الجزائر ضرب بمنشة يهش بها الذباب قنصل فرنسا، وأن المهانة لاتمحى إلا باحتلال الجزائر وقد كان، بينما كذبة الشيخ، أو الكبير، أو القائد، أو المرشد، إنما جاءت بقصد احتلال القاهرة، وقد كان . الدول الكبري تمارس الكذب من أجل تحقيق أهدافها حتى لو كانت استعمارية، والكذاب يمارس الكذب لتحقيق أهداف استعمارية أيضا، ضد تيارات وطنية، ائتمنته.. فخان الأمانة .. وإذا كان وزير الدفاع الأمريكي جيتس يقول إن الدول تكذب علي بعضها البعض لتحقيق أهدافها، فإن الكذاب يقول إن الشرع سمح لنا بالكذب أي انه يمارس الكذب باسم الله . والفرق بين الكذاب في بلادنا، والكذاب في بلادهم، أنهم يمارسون الكذب بين الدول، ليحققوا مصالح شعوبهم، بينما يمارس ضدنا الكذب الوطنى لتحقيق أهداف جماعات لاعلاقة لها بشعوبنا!!