كنت أتسلل ليلاً للاستماع إلى القرآن الكريم من «محمد» أعترف بأنى كثيرا ما كنت حاقدا علي «محمد» فقد كرهت أن يكون نبيناً لا أعلم كيف واتتنى فكرة إجراء حوار مع "أبى جهل"،ولماذا "أبو جهل" تحديدا،ولماذا الآن؟ غير أننى عزمتُ أمرى،وتوكلتُ على الله،وهاأنذا فى طريقى إليه،ويعلم الله أننى لم أكن خائفا أو مرتبكا،رغم هول الحدث..ياللهول! "أبو جهل"..كان من سادة قريش،وأشد المعادين للنبى محمد "صلى الله عليه وسلم"،اسمه "عمرو بن هشام"،لكن "الوليد بن المغيرة" هو من أسماه "أبا جهل"، لسرعة غضبه ،فيما تقول رواية أخرى:إن النبى محمدا هو من أسماه بذلك،عندما صفع أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنها. لم يكن سقوط "أبي جهل"،رغم علو شأنه بين قومه، سقوطًا لشخص بقدر ما كان سقوطا لنموذج، فكثيرون استعملوا ويستعملون مثل منطقه في معاداة الإسلام وكراهية الحق، والسعي نحو تدميره، فالحق الذي يبدو في نظرهم أنه سيضعهم في رتبة متأخرة لابد من إنكاره، بل محاربته، لأن تركه حرًا يحمل خطرًا شديدا عليهم .. ناصب "أبو جهل" الإسلام،ونبيه،العداء،منذ أن صدع محمد "صلى الله عليه وسلم" بأمر ربه،بل حاول قتله بنفسه،كما حرض فى مرة أخرى على قتله،وشارك فى غزوة "بدر"،أملا فى أن يجهض رسالة الإسلام فى مهدها،ولكنه لقى حتفه وقُتل شر قتلة. ها هو "عمرو بن هشام"،فى انتظارى حسبما اتفقنا، فقلتُ له:عمت صباحا يا سيد قومك؟ فظن أننى أسخر منه،فارتبك قليلا،ثم قال: أراك تهزأ بى،ف"عمرو بن هشام" لم يعد سيد قومه،منذ أن أجهز عليه "رُويعىُّ الغنم"،فى إشارة إلى الصحابى الجليل عبد الله بن مسعود،فى غزوة "بدر".. قاطعتُ "أبا جهل" قبل أن يكمل إساءته لابن مسعود –رضى الله عنه- وبدا لى أن الرجل،رغم أنه غدا "نحيل الجسد،منكسر النفس،غائر العينين"، إلا أنه لم يتخلص بعد من أبرز سمة من سماته،وهى الحقد على من هم أفضل منه. سألته: هل كان محمد صلى الله عليه وسلم كاذبا،وهل كان قرآنه ملفقا،من وجهة نظرك،حتى تقود قريشا لتصفيته؟ فأجاب: لا.. ورب الكعبة،ما كان محمد كاذبا ولا مُخادعا،وما كان قرآنه مُلفقا،بل كان نبيا من السماء، وقرآنه من السماء.. قلتُ:عجبا لأمرك يا رجل،ولماذا كذبته وحاربته وحاولت قتله مرتين ؟ قال "أبوجهل": وهل أتيتنى لتحاسبنى وأنا أحد سادات قريش؟ فقاطعته: عجبا لك،منذ لحظات قليلة،قلت:إنك لم تعد سيد قومك،منذ أن لقيت حتفك فى غزوة "بدر"،والآن،تغيرت نبرتك،وتغلّب عليك طبعُك،ففاجأنى "أبو جهل" بالاعتذار،واللافت أنه اعتذر بالانجليزية،مرددا: "sorry"،ويبدو أن اختلاطه بجنسيات متباينة من الموتى أكسبه بعض الكلمات الغربية.. قلتُ:سألتُك من قبل عن الدافع وراء تفكيرك فى قتل محمد صلى الله عليه وسلم،فأجابنى بعد شرود:نعم،لا أنكر أننى فعلتُ ذلك،لأننى كنتُ أكره أن يكون لمحمد فضل النبوة،لقد كنت أُمنّى نفسى بمثل هذا الشرف..صمت "أبو جهل" لحظات..ثم استطرد: عندما تنبأ "محمد"،صرختُ فى قومى:"يا معشر قريش، إن محمدا قد أبي إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد اللات، لأجلسن له ،غدا، بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته، فضختُ به رأسه .. فلما أصبحتُ أخذتُ حجرا،فلما سجد محمد احتملتُ الحجر، ثم أقبلتُ نحوه حتى إذا دنوتُ منه رجعتُ منهزما مرعوبا.. " قلت:ولماذا لم ترجع عن شططك يومئذ،وتعلن إسلامك،كما فعل غيرك من صناديد قريش،مثل أبى سفيان وغيره؟ فقاطعنى:لقد قُضى الأمر،وربما لو استقبلتُ من أمرى ما استدبرتُ،لآمنتُ بمحمد وبرسالته وقرآنه.. قلتُ: لعلك تذكر يا "ابن هشام"،ما دار بينك وبين "الأخنس بن شريق"، قائد "بني زهرة" عندما سألك: "أترى محمداً يكذب؟" قال "أبو جهل" :نعم أذكر،فقد قلت له يومئذ: "ما كذب قط وكنا نسميه "الأمين"، ولكن إذا كان في بني هاشم "السقاية والرفادة والمشورة "ثم تكون فيهم "النبوة"، فأي شيء لبني مخزوم؟" قلت:إذن..الحقد على محمد هو ما دفعك إلى محاربته؟فقاطعنى:ربما! قلت:هل حقا أنت صاحب عبارة "فلنأخذ من كل قبيلة رجلا" عندما خططت لقتل محمد فى المرة الثانية؟ قال "أبوجهل":أجل،فقد قلت لقريش عندما أردنا قتله:"والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد..وهو أن نأخذ من كل قبيلة فتي شابًا جليدًا نَسِيبا وَسِيطًا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدون إليه، فيضربونه بها ضربة رجل واحد، فيقتلونه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعًا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا، فرضوا منا بالعَقْل، فعقلناه لهم". قلت:لقد خططت يا "عمرو" لقتل محمد،تارة بنفسك،وتارة من خلال فتيان قريش وغلمانهم،وفى المرتين فشلت،بل أنت من قُتلت فى النهاية.. قاطعنى "أبو جهل" للمرة الثالثة:إنى أراك تهزأ بى وتهيننى،وإن لم تتوقف عن تجريحك لى،فسوف أنهى الحوار،كما أننى قادر على أن استدعى من قريش ،الآن وفورا، من يسفك دمك.. لم يرهبنى تهديد "أبى جهل"،فقد بدا لى بعدما جالستُه أنه ليس أكثر من "ظاهرة صوتية"،أو "شخصية افتراضية"،ومن ثم فقد تبددت هواجسى التى كانت تسيطر علىّ قبل لقائه..ولذا أردتُ أن أوجعه، فسألتُه:هل علمت أن "محمدا" صلي الله عليه وسلم أطلق عليك "فرعون هذه الأمة"؟ سكت "أبو جهل" قليلا،ثم قال:أجل،فقد تناهى إلى علمى أنه سمانى بذلك،بعد مقتلى يوم "بدر".. فى هذه الأثناء،دعانى "أبو جهل" إلى قدح من الخمر،فاعتذرتُ،وقلت :إن محمدا حرمها علينا،فقاطعنى قائلا:هذا ما كان يزعجنى أيضا من نبيكم،كان يريد أن يحرمنا من التمتع بالنساء ومن الخمر،وهذا أمر يصعب على مثلى..ثم أمر جاريته بإعداد قدح من "النسكافيه"،وأحضرته لى، ،فشكرتُها،غير أنها لم ترد،وانشغلت بمداعبة مخدومها...وأصدقكم القول أنها كانت طاغية الجمال،متفجرة الأنوثة،ويبدو أن عمليات التجميل وصلت إلى عالم الفناء. ولما فرغتُ من احتساء "النسكافيه الجاهلى"،احتدم بينى وبين "أبى جهل" الحديث،فقلت: الذين اهتموا بشخصيتك وكتبوا عنها فى العصر الحديث، يجمعون على أنك جسدت انكسار أعنف النماذج الجاهلية أمام الإسلام، فقد عشت مع الإسلام نوعا غريبا من التكذيب، فكنت تعرف صدق ما جاء به النبي، ولكنك تستكثر على نفسك أن تتبعه، بسبب كِبر الجاهلية المتجذر في نفسك، ووضْعُك نفسَك في مقام مَن لا يجوز أن يكون تابعا لأحد، ويبقى متبوعًا سيدًا على الدوام.. طأطأ "أبو جهل" رأسه أرضا ثم قال:أجل..،فقلت:لقد خلد القرآن الكريم،الذى كنت تستمع إليه مع "الوليد بن المغيرة"،ما كنت تفعل،وسمّى ذلك الكبر "جحودًا"، وهو أن يعرف الإنسان الحق، ويأبى الاعتراف به واتباعه.. فى هذه اللحظة..ذاب غرور "أبى جهل" تماما،وقال:أجل ، فأنا أذكر أنى قلت يوما لمحمد: "إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئتَ به، فنزل قرآن يقول:"فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون"،وكنت،أعلم والله، أنه لَنبيٌّ، ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا؟ قلت:ولكنك كنت مُعجبا بالقرآن الكريم وكنت تواظب عليه..فقال "أبو جهل":نعم..كنتُ معجبا بالقرآن، وأراه من طبقة أرفع بصورة مدهشة من أفصح كلام العرب، على الرغم من أنه بلُغَتنا ولساننا، ويستعمل ألفاظنا نفسها،وأعترف أننى كنتُ أخرج مستخفيا من قريش لأستمع إلى النبي في داره وهو يقرأ القرآن، وكان معى الأخنس بن شريق، فسألنى عن رأيى يوما فيما سمعت، فقلت: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعَموا فأطعمنا، وحمَلوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رِهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه! قلت:لكن الأخنس كان يسألك فى أمر،فتحدثت معه فى أمر غيره؟ فقال أبو جهل :أعترف أن القضية التي كانت تشغلنى هي قضية الشرف والمكانة، أما القرآن فلا يستطيع أحد أن يقول فيه شيئا ينتقصه به. قلت:إذن..فإن المحرك الأساسي لعداوتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوتِه ،هو ميراث التنافس الجاهلي المقيت.. التفت "أبو جهل" إلىّ،ونظر إلىّ شذرا،ثم قال: كنت أرى حولى كثيرًا من رجال قريش يطيلون قاماتهم بأعمال مجيدة يقومون بها، فكنت أنافسهم وأجري معهم في هذا المضمار، حتى ذُكرتُ كأحد رجال قريش المعروفين بإطعام الطعام وإكرام الحجيج، وبرزتُ كواحد من شجعان قومى، حتى بلغت بى شجاعتى درجة التهور الذي أهلكنى يوم بدر. أشفقت، لحظة، لحالة الانكسار التى تعم الرجل، حتى لو حاول التخلص منها باقتنائه جاريات فاتنات وبأقداح الخمر التى يحتسيها،فقلتُ: لقد طالعت قبل أن آتيك مقالا على موقع "الإخوان المسلمين"،وهذه جماعة تحكم مصر الآن، يشيد بنبل أخلاقك،ويراك مظلوما ومفترى عليك،فاكتسى وجه الرجل بالبشر والسرور،وبدا غير مصدق لى،وعندما أقسمتُ له بأنى صادق،طلب منى أن أبلغ شكره وتقديره،للقائمين على إدارة الموقع،وحملنى رسالة،تفيد بأنه يضع خدماته تحت أمر الإخوان،حزبا وجماعة،ثم قال: لو استقبلتُ من أمرى ما استدبرتُ،لأسلمتُ،وهاجرت إلى مصر،وتجنستُ بجنسيتها،وانضممتُ إلى الجماعة،طالما أنها ترفع من قدرى وشأنى..فوعدتُه بان أفعل ،وهاأنذا أوفى بوعدى ....