البابا شنودة هو بابا اللحظات الحرجة فى تاريخ مصر، فقد تولى الباباوية عام1791 عقب تنيح البابا كيرلس السادس، ووقعت أول حادثة فتنة طائفية فى منطقة الخانكة، فقد حاول الأقباط تدشين كنيسة، وأحرق مسلمون متعصبون الكنيسة، فقام البابا شنودة ومعه عدد من الكهنة لتدشين الكنيسة، وظن الأقباط أن الفتنة وئدت فى مهدها، لكن الظروف الصعبة توالت وأصبحت أحداث الفتنة الطائفية متكررة مرة فى الصعيد وأخرى فى الإسكندرية وثالثة فى البحيرة ورابعة أمام ماسبيرو وكانت أسباب الفتنة تتطور هى الأخرى. الأقباط عانوا سنوات طويلة من الاضطهاد فى عصور مختلفة، ولكن زاد اضطهادهم فى عصر مبارك، بسبب ارتفاع موجة التعصب الدينى، وهذا جعل مهمة البابا شنودة صعبة للغاية، ولكونه صعيدى النشأة ويتمتع بذكاء عال، وقدرة على إدارة الأمور بحكمة، فقد تمكن من عبور أزمة «الكشح» التى وقعت فى تسعينيات القرن الماضى. واقعة الكشح بدأت بمعركة بين اثنين من المسيحيين بسبب لعب القمار، ولأن أى قضية فيها طرف مسيحى تجعل ضباط الشرطة يتعاملون مع الأمر بحساسية، فقد تحول الأمر إلى معركة أكبر، وانتهى بمقتل 20 مسيحيا، وتم إلقاء القبض على الجناة، وصدرت أحكام رأى أعضاء المجمع المقدس أنها هزيلة لا تتناسب مع الجريمة التى وقعت ورأى الأقباط أن حادثة «الكشح» هى عودة لعصر الشهداء وهو العصرالذى قام فيه الرومان بقتل آلاف الأقباط بسبب الاختلاف العقائدى لكن البابا شنودة، نجح فى التعامل مع الأزمة، فلم يستمع إلى أصوات الأقباط المتعصبين، ولم يتخذ مواقف عنيفة بل ان كل ما فعله أن أعلن الصوم والاعتكاف فى الدير، وهذا معناه إعلان الغضب وزالت الأزمة، وطويت صفحة الكشح. أما أزمته الأولى فقد كانت مع الرئيس السادات فى أيامه الأخيرة، وانتهى الأمر بعزل السادات للبابا شنودة وتكليف آخرين بأمور الأقباط، ربما يكون السبب الرئيسى هو إطلاق السادات يد الجماعات الإسلامية للحد من التيار الناصرى ومنهم من أفتى بتكفير الأقباط ونهب ممتلكاتهم، وما حدث فى أسيوط مثالا فقد تمكنت من إحكام قبضتها على الجامعة ثم زاد عدد أعضائها إلى الحد الذى جعل منها عصابات تقتل وتسرق محلات الذهب التى يملكها الأقباط فى ضوء فتاوى أصدرها بعض شيوخهم تقول إن أموال الأقباط غنيمة للمسلمين وأن عمليات السطو على محلات الذهب التى يملكها الأقباط جائزة. البابا كان مثالا لرجل الدين المسئول عن شعب وكنيسة تضم ملايين «الأقباط الأرثوذكس» فلم تكن معاركه فى مواجهة التعصب الإسلامى فقط، بل كانت أيضا فى مواجهة تعصب الأقباط المقيمين فى المهجر «كندا - الولاياتالمتحدةالأمريكية - استراليا»، فهؤلاء الذين تركوا البلاد بعد ثورة يوليو 2591 وتطبيق قرارات يوليو الاشتراكية عام1691، فوجئوا بأن أطيانهم وأموالهم قد تمت مصادرتها، فقرروا الهجرة، وهناك موجات أخرى لهجرة الشباب القبطى المحبط بسبب قسوة الأوضاع الاقتصادية فى الداخل، وهناك تحولوا إلى جماعات ومجموعات لها اتصالات مباشرة بجماعات الضغط فى المجتمعات التى هاجروا إليها، وبدأت مطالباتهم برفع الاضطهاد الواقع عن أقباط الداخل ، رغم أن القانون المصرى لا يفرق بين المصريين بسبب العرق أو الديانة، لكن البابا نجح فى تحجيم أقباط المهجر والحد من ثورة أقباط الداخل. لن يضيع منجز البابا شنودة الذى قدمه طوال السنوات الماضية هذا المنجز الدينى الذى يتمثل فى إنشاء الكنائس والأديرة خارج مصر وتنظيم العمل الكنسى واجتياز المحطات الحرجة فى حياة الأقباط، ولكن من الضرورى أن نعرف أن البابا ليس شخصية تقليدية أو عادية، فقد قضى عشر سنوات داخل الدير لم يخرج منه، وهذا يستلزم قوة نفسية واستعداداً خاصا، وهذا يعنى أيضا أن البابا قوى للغاية وهذه القوة يحرسها الإلمام الذكى بالأحداث والقراءة العميقة للمجتمع المصرى، فلم يأخذه الانفعال فى مواجهة أحداث الفتنة الطائفية، بل يرسخ الوحدة الوطنية بين المسيحيين والمسلمين. البابا شنودة خضع قبل تنحيه للعلاج وأكد أن الأطباء أن جميع الأمراض التى عانى منها كلها أصابته نتيجة للضغوط النفسية التى تعرض لها بداية من دخول الدير وفى تولى مسئولية كرسى الكنيسة المرقسية فقد كان يتحمل هموم وأزمات ملايين الأقباط فى الداخل والخارج والفترة التى تولى خلالها المسئولية لم تكن سهلة أبدا فهو «بابا» غير عادى لم يعرف الأقباط رجلا مثله على الأقل طوال المائة عام الماضية. ولعل حادثة انشقاق «مكسيموس» ومحاولته تنصيب نفسه بابا للأقباط، والطريقة التى عالج بها البابا شنودة الموقف، تؤكد أنه رجل سياسة إلى جانب كونه رجل دين من الطراز القوى الفريد، ولا يجوز لنا أن ننسى أن البابا شنودة على قدر ما كان يتمتع به من حزم، فقد كان يتمتع أيضا بخفة ظل ويميل إلى الدعابة، فلم يكن يتعامل مع الشعب فى الكنيسة بروح الأب الحازم المتجهم، بل تعامل معه بمنطق المعلم الفاضل، ولم تخل عظاته من دعابات أثناء قيامه بالرد على أسئلة الحضور.