يحكى أن شيخا كبيرا سئم من روتين حياته، فقرر أن يتحول إلى حاكم للبلدة التى كان يحيا فيها، وذلك بعدما خلع الأهالى حاكمهم المستبد الذى أذاقهم العذاب ألواناً وأشكالاً، وراحوا يبحثون عن الأصلح لإدارة شئونهم.. فقد تقدم للمنصب صائغ، وطبيب، وتاجر، وضابط بجيش البلدة، وذلك قبل أن يزاحمهم الشيخ الهرم، وعندها قرر الأهالى أن يجروا قرعة ومن يقع عليه الاختيار ينصبونه ملكا عليهم.. وهكذا أجريت القرعة، وفاز بها الشيخ الذى تهلل وجهه واشرأب عنقه، متطلعا لدنيا جديدة يتخلص فيها من هموم الخطابة ودعوة الناس للحق والخير والعدل، والغريب أنه قرر الإقدام على خطوة مثيرة اندهش لها الناس كما لم يندهشوا من قبل! فمع أول خيط لشمس اليوم التالى لتنصيبه حاكما، أخذ الملك الشيخ يطرق باب أحد التجار، ليطلب يد ابنته، فاندهش الرجل إذ أن ابنته تصغر ذلك الشيخ المخبول بأكثر من نصف قرن، لكنه فى النهاية رضخ للأمر بعدما طلبت منه الابنة أن يوافق على تلك الزيجة راضيا بدلا من أن يرغم عليها صاغرا.. إذن تزوج الشيخ من الصبية العفية، وآن له أن ينظر إلى شئون البلدة التى أصاب أهلها العجز، بسبب ما اقترفه الحاكم السابق، من وحشية وجرائم وسلب ونهب، أتى على مقدرات هؤلاء المساكين من سكان البلدة. فكر الملك الشيخ أن ينشئ مصنعا ومتجرا كبيرا، ويزرع أرضا جديدة، فيأخذ مما تخرجه تلك الأرض ليصنع منه منتجات غذائية وكساء، ويبيع كل ذلك فى المتجر، وهو ما يعنى توفير آلاف من فرص العمل لشباب البلدة، وتوفير أموال ضخمة تدخل خزائنها، لكن فكرته وُئدت قبل أن تولد، بعدما همست الزوجة الشابة فى أذن زوجها الكهل: "أن اترك مثل هذه الأفكار، فالناس لن ترضى عنك مهما فعلت، والأفضل أن تبحث عن مصلحتك، وعما يؤمن مستقبلك، ويضمن لك عيشة رغدة». فى لمحة بصر، اقتنع الزوج العجوز بكلام زوجته الصغيرة، وراح يبحث عن طرق يشبع بها ما تبقى له من شهوات، فاستعبد الناس وسخرهم لخدمته، وفرض الضرائب، واخترع منها صنوفاً غريبة، مثل: ضريبة على الكلام، وأخرى على الصمت، وواحدة على العمل، ومثلها على الكسل.. و.. و.. سنوات مرت والناس فى عيشة «ضنكا»، إلى أن خرج من بينهم مجموعة من الشبان الأشداء، راحوا يعلنون غضبهم من أحوال البلدة واستعباد الحاكم لأهلها، وسريعاً ما وصل أمرهم للحاكم الشيخ، فقرر الخلاص منهم بالإعدام، لكن زوجته التى باتت شابة بهية، نصحته بالإقلاع عن الفكرة، والسعى لاحتواء غضبة هؤلاء الفتيان، قبل أن تحترق البلدة بنيران الصدام بينه وبينهم. خلال أيام قليلة كانت الزوجة قد رتبت للقاء بين زوجها وعدد من الشبان الثائرين، وفيه طالبوا الحاكم بالكف عن استعباد الناس وإلغاء الضرائب، وتحسين الأوضاع المعيشية، وإلا ثاروا عليه وخلعوه، فغضب الحاكم وطق الشرر من عينيه، وقبل أن يتصرف بحماقة أوعزت له زوجته أن يصمت، ويبدى موافقته على تحقيق ما طلبوه، وعندما انصرف الشبان بدأت الزوجة تشرح لزوجها الطريقة التى يحتوى بها غضبة شباب البلدة! فى اليوم التالى خرج الحاكم فى مظهر جديد– قديم.. جديد عليه كحاكم، وقديم لأنه مظهر الشيخ، رجل الدين، التقى، وقال إنه استخار الله وقرر تحسين معيشة الأهالى ب «البركة»! فرح الناس كما لم يفرحوا من قبل، فما أحلى البركة، وما أحلى العيشة المباركة.. فى الصباح، ذهب الناس للحاكم يسألونه أن يعطيهم مما أعطاه الله، فقدم لهم بضع دراهم لا تكفى لشراء نصف رغيف من الخبز، فلما أعلنوا دهشتهم قال لهم إن قليلاً من المال مع البركة يكفى لتوفير ما يحتاجونه.. ولما سألوه أن يعطيهم الطعام، منحهم بضع نقاط من الزيت وكسرة خبز، فلما ظهرت الدهشة على وجوههم، قال لهم إن قليلاً من الطعام مع كثير من البركة، يشبع الجميع.. ولما سألوه أن يعطيهم الكساء، قدم لهم قماشاً لا يكفى لصنع منديل، فلما ظهرت الدهشة على وجوههم، أخبرهم أن قليلاً من القماش مع كثير من البركة يكفى لستر عورات الخلق كلهم.. ولما سألوه أن يعطيهم أرضا ليسكنوا فيها، ملكهم مترا فى متر، فلما علت الدهشة وجوههم، أخبرهم أن شبرا من الأرض مع كثير من البركة، يكفى لأن يبنوا بيوتا تأويهم وذريتهم إلى يوم الدين.. ضاق الناس بما يفعله الملك الشيخ، لكنهم أبوا أن يجأروا بالشكوى، فيصبحون من الكافرين بالبركة، فقرروا كتمان غضبتهم فى بطونهم، والتعامل مع الموقف بكثير من الصبر، والتضرع لله عله يخرجهم من المأزق، ويفك كربهم. ظلت الأمور على حالها لفترة ليست قصيرة، إلى أن مرض الملك الشيخ بمرض عجز الأطباء عن تشخيصه، ولم يجدوا له علاجاً يداويه، أو يسكن آلامه التى كانت تدفعه للصراخ ليل نهار، فأعلن فى البلدة الخبر، ورصدت زوجة الحاكم مكافأة ضخمة لمن يداوى زوجها.. هنا راح السحرة والمشعوذون والعطارون يعرضون أفكارهم، لكن احدا منهم لم ينجح، وظل الرجل يتألم، حتى جاء إلى القصر مجموعة من الشبان ومعهم شىء يشبه الجثة الملفوفة فى كفنها، فلما سألهم الحراس عن مبتغاهم قالوا لهم إنهم أتوا بالعلاج السحرى للحاكم، فانفتحت لهم الأبواب ودخلوا، فاستقبلتهم الزوجة، وسألتهم عن ذلك الدواء العظيم الذى أتوا به، ولماذا هو ضخم كما ترى.. كل تلك الأسئلة رفض الشبان الإجابة عنها إلا أمام الحاكم الذى فوجئ بهم يكشفون عن شيء لزج فى حجم المسلة الفرعونية، فطلبوا منه أن يستعد لتناول الدواء، فاتسعت حدقتا عينيه وسقط مغشيا عليه حين قالوا له إن ما يحملونه ليس سوى نوع من اللبوس العجيب وفيه شفاء له، وأنه كان حبة صغيرة من اللبوس لكن مع كثير من البركة أصبحت الحبة فى هذا الحجم، فلما استخدمها الرجل صرخ كما المرأة وهى تلد، وراح يهذى بكلمات لم يفهم منها سوى «البركة» وعمايلها!