فى كل مرة كنتُ أتردد فى زيارة الشاعر التونسى الثائر «أبى القاسم الشابى»،الغائب عن الحياة،منذ عام 1934،لكن لم أجد مفرا من زيارته هذه المرة لسببين،أولهما:حلول ذكرى وفاته ال78،ومن ثم ضرورة الاحتفال به ،على وقع الثورات العربية،باعتباره من أبرز رموزها!،وثانيهما:إننا شريكان فى همّ واحد،سوف أذكره لاحقا.. لم يعش «أبو القاسم» سوى 25 عاما،لكنه ترك شعرا ثوريا ورومانسيا،لا يزال صداه قويا حتى الآن،رغم مرور كل هذه السنين على وفاته،فهو القائل: إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَاةَ فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَدَر وَلا بُدَّ لِلَّيْلِ أنْ يَنْجَلِي وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَنْكَسِر «كان الشابي شاعرا كاملا، وأولى صفاته :أنه أحب الحياة حبا عميقا كاملا،قبل أن يغدر به الموت، أحب الجمال، وأحب وطنه، وأحب الحرية، وكما ظهر هرميروس في أثينا، وشكسبير في لندن، وجوتة في ألمانيا، وبوشكين في روسيا.. ظهر الشابي في تونس.»،هكذا كتب عنه شاعرنا «إبراهيم ناجى»،أما الكاتب الراحل «رجاء النقاش فقال: «كتب أبو القاسم الشابي شعرا مليئا بالغضب بسبب إحساسه بأن الموهبة العربية ضائعة ومسحوقة». الشابي كان ولا يزال ملهم الشعراء ومرجعهم، ومعينا ينهلون منهم شرابهم ولا يرتوون. فمن أجل الثورة.. كتب «الشابي» قصائده، فكانت ثورته ثورتين ،بحسب مواطنه الشاعر «الهادى العثمانى»،ثورة متمردة على الظلم والجهل والاستعمار ومظاهر الشعوذة المشوّهة للدين ، و ثورة هادئة متأملة متألمة وتمثلها القصائد الوجدانية ونصوصها ذات الصبغة العاطفية والاجتماعية وهي التي تحدث فيها عن نفسه، وعن آلام الحياة، وآمالها . الآن..لا تفصلنى سوى دقائق قليلة،قبل الوصول إلى مضيفى الكريم،فتذكرتُ مما قرأتُه عنه انه نحت هياكل جديدة للقول الشعري بكثير من المجازات والكنايات والاستعارة المركبة ،ولعل مما هيّأ له أسباب الثورة فجعله شاعرا ينشد الحرية وينشدها متنبئا بحدوث تحولات كبرى، ما أتاحته له المرحلة من مواكبته لبروز مدرسة تجديدية آنذاك، وهي المدرسة الرومانسية، وما بثته جماعة الرابطة القلمية من بوادر الوعي لدى الشعوب فبزغت اشراقات فجر جديد توالدت فيه الأفكار الثورية ونبذ الجمود والدوغمائية، ورفض البدع والخرافات .. ها هو «أبو القاسم الشابى» ينشد: في شعب الزمان والموت، أمشي تحت عبء الحياة، جم القيود وأماشي الورى، ونفسي كالقبر، وقلبي كالعالم المهدود ظلمة ما لَها ختام، وهول شائع ، في سكونِها الممدود وإذا ما استخفى عبث الناس، تبسمتُ في أسى وجُمود فلما أن أنهى «الشابى»،ألقيتُ عليه السلام،فقال:سلاما،فقلتُ:والله قد أبكيتنى،فقال:لم؟ قلتُ: لأن تلك الأبيات الأربعة تصف حالى وصفا دقيقا جدا،فقال: أظن أن حال العرب كلهم هكذا،قلتُ:ربما،ثم استطردتُ:تُرى لماذا أنا حريص منذ فترة على زيارتك؟ قال:لم؟ قلت:لأنك كنت تكره الظلم وتقاومه،فقد كنت شاعرا ثائرا متمردا على كل شيء، رافضا كل مظاهر الاستكانة والعبودية والركون، ممجدا للحرية ،فعقّب قائلا: خلقت طليقا كطيف النسيم وحرّا كنور الضحى في سماه تغرّد كالطير أين اندفعت وتشدو بما شاء وحي الإله ثم صمت قليلا،قبل أن يكمل: ألا أيها الظالم المستبد حبيب الظلام عدو الحياة حذار.. فتحتَ الرماد اللهيب و من يبذر الشوك يجن الجراح فقلتُ:لا تزال ثوريا كما أنت يا «أبا القاسم»،لم يغير فيك الموت شيئا،لم يفلح فى إخماد جذوة الثورة فى صدرك ولسانك..فقاطعنى:هكذا هى شيمة النفوس الأبية.. أردت أن أطوف بمضيفى بعيدا عن الثورة والغضب والتمرد قليلا،فسألته:ألا يزال قلبك عليلا،يا أبا القاسم؟ فأجابنى: آه،لم تجدد آلامى يا صديقى؟ فقلت:عذرا،لم أقصد،لكن لسؤالى سببا وجيها،سوف أذكره لك،لكن بعد أن تجيبنى،فأجاب:« لا يزال بقلبي ضعف ! آه يا قلبي ! أنت مبعث آلامي ومستودع أحزاني وأنت ظلمة الأسى التي تطغى على حياتي المعنوية والخارجية.«،فقلتُ: همنا واحد،يا عزيزى،فمنذ سويعات قليلة،أبلغنى طبيبى المعالج،بما أبلغك به طبيبك الدكتور «محمود الماطرى» قبل 80 عاما،عندما بسط لك حالة مرضك وحذرك من عواقب الإجهاد الفكري والبدني ،بسبب أوجاع قلبك. لف الصمتُ المكان،قبل أن أغازل «الشابى» ،بما قيل عنه بعد وفاته مثل الشاعر العراقي « فالح الحجية»،الذى كتب في كتابه «شعراء النهضة العربية» عنه:« هو شاعر وجداني، وهو برغم صغر سنه، شاعر مجيد مكثر، يمتاز شعره بالرومانسية، فهو صاحب لفظة سهلة قريبة من القلوب، وعبارة بلاغية رائعة، يصوغها بأسلوب، أو قالب شعري جميل، فهو بطبيعته، يرنو إلى النفس الإنسانية وخوالجها الفياضة، من خلال توسيعه لدائرة الشعر وتوليد ومسايرة نفسيته الشبابية، في شعر جميل وابتكار أفضل للمواضيع المختلفة، بحيث جاءت قصيدته ناضجة مؤثرة في النفس خارجة من قلب معني بها، مُلهما إياها، كل معاني التأثر النفسي بما حوله من حالة طبيعية، مستنتجا النزعة الإنسانية العالية، لذا جاء شعره متأثرا بالعالمين النفسي والخارجي». استحسن «الشابى» قولى،وقال: شيء عظيم،أن تبقى ذكرى إنسان بعد وفاته ب8 عقود حتى الآن فقلت: حقا،أنت تشكل ظاهرة شعرية خاصة،ولعل هذا ما دفع مواطنك الهادي العثماني إلى أن يقول عنك : «الشابي شاعر ثائر، لأنه مبدع فنان، وهو مبدع فنان، لأنه ثائر،لقد كان ثائرا في كل شيء، وعلى كل شيء، انطلاقا من تجاوزه الأنماط القديمة في الشعر ،خاصة على مستوى المضمون، فقد جعل الإنسان محور اهتمامه وكرّس قصائده للعواطف الإنسانية السامية، مترفعا بها عن سفاسف القول مما كان سابقوه وبعض من معاصريه ينحطّون إليه لأنه يكتب الشعر لإرضاء الضمير لا لمدح الأمير». فقاطعنى مبتسما،ولعل هذا ما جعل الشاعر محمد الفائز القيرواني يقول عنى: جئت للخضراء والشعر بها لا يرى إلا مديحا أوعتابا فتصدّيت له حتى غدا وارف الظل عزيزا مستطابا قلت: فلنبق مع «العثماني» الذى أكد على ثوريتك طلبا للحرية وأسهب فى ذلك كثيرا، فقال»الشابى»: «لأن الحرية مطلب الثورات، فقد ثرتُ طلبا للحرية، وكانت المرحلة التاريخية والواقع التونسي والعربي عموما، أسبابا ملحّة تهييّء إلى الثورة وتدعو إلى طلب التحرر و تنادي بكسر الجمود والتمرد على الموجود،و كانت تونس وبعض البلدان العربية آنئذ ترزح تحت هيمنة الاستعمار، وعاش الشعب أبشع مظاهر الظلم والفقر والجهل والذل والاستكانة، ودب اليأس إلى النفوس الضعيفة، فكان الاستسلام، وساد الفكر الانهزامي، وكأنّ العربي قد خضع للقدر، ورضي بواقعه فالتجأ إلى الدين مهربا وراح يفسره من زاوية جهله تفسيرا سطحيا، رأى من خلاله أن الواقع قدر مفروض وأنه فيه مسيّر، فضعفت العزائم، وخارت الهمم، وانهارت القيم وفسد المجتمع، وأصبح الإنسان العربي من الرعايا، تابعا محكوما، راضيا قنوعا، سلبيا خنوعا، وهو ما فجر براكين الثورة والتمرد عندى فأطلقتُ صيحتى: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر و لا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر قاطعته قائلا: هذه الأبيات وغيرها أيقظت الغافلين،و كانت بمثابة دستور الثورة والمثيرة لهمم الناس، الواعزة إليهم بالتمرد، المحفّزة لعزائمهم، وكانت سلاحا آخر لمقاومة الاستعمار ورفض الظلم والاستكانة. قلتُ: لماذا كنت غاضبا من شعبك كثيرا؟ فأجاب: كنت أعيش في مجتمع ذليل، فثرت على كل شيء، حتى على شعبى، فخاطبته في غضب ظاهره نقمة وباطنه مودّة: أيها الشعب ليتني كنت حطّابا فأهوي على الجذوع بفأسي قلت:ولكن البعض يرى فى قولك هذا،دعوة إلى الهدم؟فقاطعنى غاضبا: إنها الثورة الداعية إلى الهدم من أجل إعادة البناء ، وإعلان التمرد على العبودية طلبا للحرية، وهو النداء لقتل الموت لإحياء الحياة،ثم صرخ قائلا: ليت لي قوة العواصف يا شعبي فألقي إليها ثورة نفسي قلت: ولكن شعبك استجاب،وكان الشباب يهتف فى الثورة التونسية أبياتك الثائرة، ويصرخون: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر قال:هذا أمر طيب،وسعدت به كثيرا فى حينه.. قلت: دعنى أسرد عليك ما قالوه على دعوتك للثورة والحرية .. فسألنى:وما ذا قالوا؟ قلت:قالوا: «لقد تغنى الشابي بالحرية في لغة رائعة، فأبدع أيما إبداع، وثار ثورة صادقة حركت السواكن، وأيقظت الشعوب النائمة، وحفزت الهمم في مختلف ربوع العالم العربي ، إنها الصرخة التي زلزلت سكون الليل لينجلي الظلام الداجي عن إشراق شمس الحرية تضيء سبيل التائهين وتجلّي الدجى من كهوف معتمة تسكنها العناكب، وتلك هي مظاهر التجديد التي اتسم بها الشابي فكان داعيا من دعاة الحق والفضيلة ومبشّرا بالتحرر..فقال :حسنا.. قلت:ولعل هذا ما دفع الشاعر مصطفى خريّف ليصف شعرك قائلا: وشعرك باق نابض متدفق له في فم الدنيا عتاء وترديد له من شغوف العبقرية حلة منمّقة فيها ابتكار وتجديد كما قال عنك الشاعر أحمد المختار الهادي: ونبضة شعرك لحظة عمقك منها التجليّ، وفيها التداوي وكنت الذي وسّع الكون لما عبرت حدود المحال وفأسك يهوي على كل جذع بأرض الشرور استطال ترى ما الذي قد يقول الذين تمنوا لك الموت لما أردت الحياة و كنت النبيّ و كنت الذي أطلع الشمس فوق أديم بلادي و كنت الأبيّ قال:وما يقولون عنى بعد الثورة التى أسقطت نظام «زين العابدين بن على»،فأجبته:يقولون:إن بزوغ عهد الحرية أعاد الشعراء إلى الواجهة وفي تونس مَهْد الثورة العربية، علت حناجر شباب الثورة بقصيدة الشابي، ومنها إلى كل البلدان العربية الساعية بحقها إلى الحرية وصوت الكرامة الإنسانية، قد آمن هؤلاء الشباب إيمان الشابي العميق بقدرة الشعر في تحقيق إرادته فكانت قصيدته «إرادة الحياة» التي عبّر بها عن أنّ الجراح الإنسانية للأمة العربية أقوى من السلاح ومن الموت أيام الانتفاضة. قال:وماذا عن قصيدة «إرادة الحياة»؟ قلت : أجمعوا على ان القصيدة بعثت في الأمة العربية عشقاً أبدياً لرسالة الشعر بل وأرغمتنا على البكاء والفرح الطفولي المنبثق من رسالة الشعر نفسه الذي غرس فينا معنى القيم، وهي قيم إذا خلت منها القصيدة تصبح مجرّد ألفاظ منظومة بلا معنى ولا حياة». قلت:هل من نصيحة يا أبا القاسم حتى يجمعنا لقاء؟ فأنشد قائلا: وَمَنْ يتهيب صُعُودَ الجِبَالِ يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَر أُبَارِكُ في النَّاسِ أَهْلَ الطُّمُوحِ وَمَنْ يَسْتَلِذُّ رُكُوبَ الخَطَر وأَلْعَنُ مَنْ لا يُمَاشِي الزَّمَانَ وَيَقْنَعُ بِالعَيْشِ عَيْشِ الحَجَر ِاذَا طَمَحَتْ لِلْحَيَاةِ النُّفُوسُ فَلا بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَدَرْ