بالاستطاعة إدراك هَوْل الزلزال المفاجئ الذى هزنا من طوفان المعلومات حول قضية التمويلات الخارجية، ثم الذهول من مشهد الركوع المهين عند السماح بسفر المتهمين الأمريكان.. بالاستطاعة أيضا أن ندرك بسهولة أن بلادنا أصبحت مرتعا للكلاب.. كلاب الليل وكلاب النهار .. كلاب النواصى والطرقات .. كلاب القطارات والعربات .. كلاب تنهش دعم الخبز والاسطوانات .. وكلاب لا تحرك ذيلها إلا للدولارات. عند الحديث عن قضية التمويل الخارجى, لاتعنينى التفاصيل القانونية, ولا المساجلات القضائية، ولا تصادم مواد القانون, ولا تراشق هيئات الدفاع.. فالقضية يا سادة تتجه بسرعة البرق نحو مخالفة منظمات وجمعيات تعمل بدون ترخيص, وهى قضية تقف على قدم المساواة مع قضية «أم شحتة» التى افتتحت كشكاً لبيع العسلية بدون ترخيص على ناصية حارة الرِّمش اللى يدخلها ما يتحِرِمْش!. وإنا لله وإنا إليه راجعون واللهم اجعلها آخر أحزاننا وأحزان أم شحتة!. ما يعنينى فى المقام الأول.. أن ما حدث لا يمكن أن يمر دون أن ندرك كل هذا الخلل الفادح والفاضح فى المنظومة القِيَمِيَّة لشريحة من المجتمع المصرى تمثل كما يقولون»كِرِيمة المجتمع» أو النخبة من حملة مفاتيح المنظمات والجمعيات «والمؤلَّفة جيوبهم» .. خلل جعلهم يبررون الفضيحة بالفضيلة، فتشعر أنه كل العبث ..لقد تصوروا أننا سنبتلع البشارة بأنهم رسل الديمقراطية بفلوس أجنبية ..وتصوروا أننا سوف نصدق أن الممول الأجنبى يمطرهم بأموال دافعى الضرائب عنده لانتشال مصر من مستنقع التخلف الديمقراطى وهو يغنى أنا قلبى عليك عليك قلبى!..هؤلاء إما قوم «يستعبطون»..وإما أنهم «عِبْط» ولكن لا يعلمون. فى عالم المخابرات يقولون إن العميل المثالى هو الذى لا يدرى أنه عميل .. أذكر أن انجليزيا منذ أكثر من قرن قال لمصرى سوف أقدم لك صنيعا لن تنساه..صنيعاً يتحدث عنه أهل مصر على مر الأجيال .. وسوف تكون صاحب أجمل وأغرب نبات على وجه الأرض .. نبات لا يزرع فى الأرض كسائر النباتات, وإنما يزرع على سطح الماء, وسوف أدفع لك تمويلاً محترماً كى تنجح فى مهمتك.. كان النبات العجيب هو»ورد النيل» .. زرعه الرجل المصرى الطيب «بتمويل إنجليزى», وتمر الأيام ويتحول هذا النبات إلى شَفَّاط رهيب يشرب الماء وينمو بسرعة , ليخنق الترع والنيل والنباتات, فصار الخطر الداهم على النيل والقنوات.. وربما لهذا السبب ظهرت أغنية ريفية فولكلورية تقول ياللى ع الترعة حود ع المانِح (المالح) وسطى بيوجعنى من ورد امبارح! ،وكأنها دعوة للرى والارتواء من البحر المالح بعد أن عَزَّت مياه النيل بسبب الإنجليزى صاحب التمويل!! ما يعنينى فى المقام الثانى هو عبث الحديث عن الكرامة وأمامنا مشهد الركوع الصادم .. أطلقوا على»الصفعة» وصف الصفقة، وسَرَّبوا أن ثمن الانبطاح 50 مليار جنيه،ويا لها من خسارة. أذكر موقفاً للرئيس البرازيلى الفقير»لويس إيناسيولولا دى سيلفا» وشهرته لولادى سيلفا .. أذكر له موقفا عميق الدلالة رائع التفاصيل, ربما نلتقط منه قَبَساً لخارطة طريق جديدة فى علاقتنا بالخارج وبالعم سام على وجه الخصوص .. بالمناسبة فى عهد دى سيلفا وفى سنوات قليلة ربما أقل من ثمانى سنوات عبرت البرازيل وبقوة من عنق الزجاجة بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار الاقتصادى المؤكد .. دى سيلفا كان يقول إن القوى الكبرى كانت تعامل البرازيل دوما على أنها دولة أدنى منهم لأسباب عديدة , لكننا انتزعنا احترام العالم بالقوة والإرادة .. يتحدث دى سيلفا عن واقعة حدثت معه أثناء مشاركته مع مجموعة الدول الثمانية الكبرى عندما امتنع عن الوقوف والتصفيق للرئيس الأمريكى بوش الابن عند دخوله القاعة كما فعل الجميع، وكانت البرازيل وقتها مازالت تقبع فى مستنقع الفقر .. يقول عندما دخلت أنا القاعة لم يقف لى أحد, ولم يصفقوا, فلماذا يُطْلَب منى أن أقف لبوش؟ .. ويستطرد دى سيلفا قائلا فجاء بوش وصافحنى رغم أننى لم أقف له أثناء دخوله القاعة .. فليس بالضرورة أن تكون لاعق أحذية, وليس بالضرورة أن تكون خادماً من أجل أن يحترموك. هل وصلت الرسالة؟!