في يوم الثلاثاء ، العاشر من يناير 2012م ، كان ميلاد « فيتو» وخروجها للشارع العام ، كانت أحلامنا تطاول السحاب مع كلّ فكرةٍ وكلّ حرف وكلّ نقطة ، وبالرغم من طول شهور المخاض والانتظار ، فإنّنا لم نفقد حماسنا وأصررنا على أن نفِلَّ العنادَ بالعناد ، وصَبرْنا ، وشاء القدرُ أن ننزل الملعب في خضمّ العشوائية التي تجتاحُ البلاد وتغطّي الخريطة بزعابيبَ وضبابٍ ودخانٍ وأطماعٍ وتكالُبٍ لا مثيلَ له ، فجاءت « فيتو» بأظافرها الطويلة لتقف في وجه كلّ هذه التيارات القذرة ، لا تخشى في حقّ الوطن لومة لائم ، ولا تحسب لأحد حسابا ، كبيرا كان أو صغيرا ، فارتفعت موجاتُ الغضبِ والشتائم ضد الجريدة من اللحظة الأولى ، ولكنها لم تهز فينا شعرة ، ولم تستطع أن تبلغ كعب حذاء أصغر جندي في معسكر « فيتو»، وبرغم السواد والإحباط والخيبات المتتالية ، سيبقى ذلك اليوم العاشر من يناير عيدًا لنا ، للحرية وللكرامة وللوطنية ولكلّ المبادئ والقيم التي ننتصر لها ونقاتل من أجلها ولا نتاجرُ بها . بحساب التقويم الميلادي .. كانت سنة 2012 سنة كبيسة ، وبحساب التقويم المصري على أرض الواقع .. كانت سنة خبيثة ، فبذور الخراب التي نُثِرَت في تربة الخريطة المصريّة ستحتاجُ إلى عشرات العقود لاجتثاثها ووقف نموها وتكاثرها ، وأسوأ ما تقيّأته تلك السنة المشؤومة ذلك الدستور الخِرِب الذي جاءَ سِفاحًا في مسرحية هزلية من فصلين ، لم يكن أحدهما بأمثلَ من الآخر ، الفصل الأول : تمثّلَ في اختيار اللا مؤاخذة الجمعية المعنية بطبخ الدستور ، والفصل الثاني : تمثَّلَ في عملية تمرير هذه الوجبة السامة فيما عُرِف باللا مؤاخذة « الاستفتاء » على هذا المنتج غير الشرعي الذي يأنف كلّ شرفاء الوطن من رائحته وسيرته ! هذا الحدث هو رأس هرم الخراب في عام الإجهاز على ما تبقّى من الثورة ، فكلّ الأشخاص زائلون مهما يطُل العمر ، الرئيس تنتهي ولايته ، والمجالس المسروقة تزول بالصندوق مهما يكن حجم التزوير والمضاعفات الجانبية لرشاوى الزيت والسكر والأرز وأنابيب البوتاجاز ، بينما هذا السرطان يكبر ويتمدد ويمشي في الأجيال المقبلة ، وهذه خطيئة سنُحاسَبُ عليها مرتين : على ما سندفعه بسببها في الدنيا ، وعلى صمتنا عليها وتركها حتى تستفحل .. في الآخرة . على جانبي هرم الخراب تتدحرج الكوارث وتتعانق وتتسلسل في انتظام بديع يسعد الأعداء ، ويشبع نهم الشامتين ، ويمنح الشياطين والأباليس الفرصة للراحة والتقاط الأنفاس ، بل والنظر بحسرة وغلّ وحسد إلى هذه الأفعال البشرية التي تعجز كلّ قبائل إبليس وأصهارهم بالقاهرة والمحافظات عن ارتكابها أو التحريض عليها . منذ بداية السنة الكئيبة التي دخلت مخضّبة بالدماء ، كانت هناك بقايا آمال متناثرة على جانبي النفق المظلم ، ولكن جاءت أحداث ملعب بور سعيد لتعيدنا عاما كاملا إلى الوراء لنتمرّغ في ذكريات «موقعة الجمل « وما تلاها من موقعات داميةٍ أخذت أجمل شبابنا وأنقى ما فينا وما يزالُ فاعلها مجهولا إلى الآن !! وكلما أفقنا من صفعةٍ عوجلنا بأختها ، سواء من تصرفات المجلس العسكري المسكين الذي ابتلينا به ، أو من أفعال حليفته المحظورة التي سلّمها مفاتيح الدولة وجلس يتفرّج عليها وهي تلعب في «الكوالين» وتجرّب فينا ، وبالرغم من أن الانتخابات الرئاسية أوقعتنا في أسوأ ارتباك وأشأم فأل ، إذ انتهى الأمر إلى أن نُجبرَ على الاختيار بين أمرين « أحلاهما مرُّ « كما قال زميلي أبو فراس الحمداني في رائيته الشهيرة ، إلا أنّ الأمل لم يمت ، وحاولنا التماس التفاؤل فيما آلت إليه النتيجة التي لم نشارك في صنعها ، ولكن فوجئنا منذ اللحظة الأولى بعاصفة عاتية تضرب دولة القانون في جذورها ، وبدت ملامح الدولة الجديدة تعربُ عن نفسها ، ومن يومها تحوّلت مصر إلى كرة شراب يتقاذفها الهواة ( في كلّ الميادين ) مَعَ / مَعَ ، أو ضدّ / ضدّ ، ولم نعد نعرف العدو من الحبيب ! وأصبح صناع الفوضى أكثر من عدد المواطنين ، والجميع يرقصون على جثة الوطن بلا مبالاة ولا وازع من دين أو ضمير ، تساوى الذين يتاجرون بالدين بالذين يتاجرون بالعلمانية والمدنية، كلٌّ يضرب في كل اتجاه ولا ينظر إلا تحت قدميه، والثمن والفواتير الثقيلة يتم تأجيلُهما وتحميلُهما على كاهل المستقبل المسكين الذي سيأتي مكبّلا بحصائد ألسنتنا وأيدينا ! الورثة القادمون في علم الغيب سيخرجون إلى الوجود وعلى أكتافهم سوء ما صنعنا ببلادنا ، ولن يشفع لهم التاريخ الذي سيبكي على ثورتنا المسروقة وهو يضع أفعالنا في صفحات سوداء تليق بالضمائر السوداء والقلوبِ المعتمة والعيون التي لا ترى أبعد من مصالحها والألسنة القذرة التي تمّ تعميدها بماء الكذب والخداع والمراوغة ، التاريخ سيبكي ويتقيّأ وهو يكتب ، لكنه لن يلغي النتائج ولن يعود بظهره ليصلح ما أفسده النصّابون والغشّاشون والنخّاسون القوّادون ورُعاةُ الخرابِ وسارقو المستقبل وأشواقنا إليه ! لن ينسى التاريخ ، ولن يستطيع أحدٌ تزويره برغم سرقة الصحافة والتليفزيون وتدجين معظم وسائل الإعلام وتجنيد خطباء المساجد الذين لا يعرفون نواصب المضارع وجوازمه ليتاجروا بالدين ويلوثوا المنابر بتراب السياسة وأوحالها، لن يتمكن أحد من مراوغة ال « يوتيوب» وملايين الفيديوهات التي تسجّل دبّة النملة ، التاريخ الآن هو الذي يكتب نفسه بالوثائق الناطقة التي تقطع ألسنة الكذّابين ، الصحف المنسحقة لن تصلح إلا ليستخدمها عساكر الأمن المركزي ليلفُّوا فيها بياداتهم وهم يسطّحون على القطارات ، وعواء القنوات المأجورة التي تتمسّحُ في الدين وغير المتمسّحة فيه سينسكب في الفراغ مثل تثاؤب البعوض التائه في مستنقعات الخيانة ، والشعارات الكاذبة ستتلاشى في ثوان مثلما يتلاشى بول البساريا في قاع البحر المتوسط ، وسيبقى الجميع عرايا على قارعة التاريخ ، وكلّ يحملُ أرشيفه في يديه وفوق كتفيه ، ومَن كان يتعامل مع الذاكرة المصرية باعتبارها من النوع التيفال الذي لا يلتصق به شيء فعليه أن يفيق ، ومَن غدرَ بالوطن والمواطنين ووضع لهم السمّ في العسل وجاء طالبًا السماح تحت شعار المصالحة الوطنية ، فعليه أن يمحو آثار ما ارتكبت يداه ثم يأتي ليندم ويبكي ويطلب العفو والمغفرة ، ومَن زعم أنه حامل التوكيلات الحصرية للدين وبيديه مفاتيح الجنة والنار ، فعليه أن يستحي من الله أولا وأن يعلم أنه ، بنفاقه وكذبه واجترائه على دين الله وعباده ، سيكون في الدّرْكِ الأسفل من النار في يوم لا تنفع فيه حصانة ولا صلة نسب أو قرابة . تسعة وأربعون عددا من « فيتو» ، هي تسعة وأربعون كتابًا في سجلّ الحرية ، لم نزرع أقلامنا وحروفنا في المناطق الوسطى أو الرمادية أو ال « بين بين » ، اللعب مع الجميع أو إمساك العصا من المنتصف ليس من شيمنا ، هذا الصنف « شاحح « في محلاتنا ، على الورق ومواقع الانترنت ( وليس لنا فروع أخرى ) ، مَن يُحسِنْ نقُلْ له : أحسنت ، ومَنْ ينسَ نفسه نعلّمْه الأدب ونردّه إلى الصراط القويم ، صراط الدين والإيمان الصحيح ، وصراط الوطنية الحقّة ، وهما الصراطان اللذان نمشي فيهما جنبًا إلى جنبٍ بلا خوفٍ ولا وجلٍ أو تردد ، لا نرى في ضمائرنا إلا الله والوطن ، ومَن يعترض الطريق ف ... ذنبه على جنبه !! سنة كاملة بها من الأحداث الجسام ما تنوء بحمله الدهور ، تحمّلناها ، وقطعناها في مطاردة الفاسدين والمراوغين والكذابين وحملة المباخر والتيوس المُستعارة ، يتساوى في أعيننا تجّار الدين بغرمائهم تجّار المخدرات الفكرية ( والتعبير لأحد السبّاكين الذين لا يفهمون في السباك) ، نحلم بوطنٍ حرّ يتسع لكلّ أبنائه بالعدل والمساواة ، لا فضل لأحد فيه على غيره إلا بعمله ، وبقيمة ما يقدمه لمجتمعه وللحضارة البشرية ، وطن باتساع الخيال تُصانُ فيه الحقوق وترفرف فوقه رايات الحرية والكرامة ، وطنٍ لا يتمّ تجريفه وتهريبه تحت عباءة الدين ، ولا يتمّ إرهاب أبنائه وتخويفهم بالجنة والنار ، وطنٍ يغادر عصور الخيانات والهزائم والشعارات الفارغة إلى الواقع والعمل والرجولة والبطولة ، وطنٍ يعرف معنى الشهادة ويقدّر التضحيات ويتكاتف لاحترام ذكرى الشهداء بالقصاص لهم وردّ اعتبارهم بالرغم من أنهم « أحياءٌ عندَ ربّهم يُرزَقون « ، لكن دماءهم في رقابنا جميعًا ، وطنٍ يعتمد على كفاءات أبنائه العباقرة ويفتخر بها ويباهي الكون ويعلو بأجنحتها إلى الآفاق اللائقة به بدلا من هذا الضياع وهذا التخبّط وهذه الفجعة التي تحوّلت إلى حفرة تبتلع الحاضر وتقطعُ الطريق على المستقبل ! أقلامنا أسلحتنا ، وكلماتنا شهاداتنا ، وكلّ إنسانٍ يضعُ نفسه في المكان الذي يحبّ أن يراه الناس فيه ، فمن يرد أن يظلّ قلمه نورًا ونارًا فهنيئا له ، ومَن ارتضى أن يجعل قلمه وكلماته مشّايات ومماسح أحذيةٍ فليهنأ بما ارتضى ، مَن أحسنَ سنصفق له ونقولُ : أحسنت ، ومَن أساء فقد وضع رأسه تحت أقدامنا بإرادته واختياره لينال ما يليق به من التأديب والإصلاح والتهذيب . باب السلخانة على مصراعيه على مدار الساعة ... فمرحبا بكلّ المارقين وقُطعان التيوس المُستعارة !!