نتعلم من دراسة الفلسفة، باعتبارها محبة الحكمة، أن الإنسان الحكيم حقا، لا يمكن أن يدعى الحكمة، فهذا الادعاء يناقض الحكمة ذاتها. وكذلك العارف بالله، لا يمكن أن يقول للناس إنه من أولياء الله الصالحين. فهذه الدعوى تتناقض مع رفعة مرتبة الولاية، ولذلك ترى أصحاب الكرامات يتجاوزونها، ويقولون: الكرامة حقا هى أن تُرزق جمال الاستقامة. وفى مقدمة الأستاذ لمجموعتى القصصية الأولى: «عين العقل»، بدأ كلمته -التى أملاها على يوسف القعيد- هكذا: «أرى أن ما قرأت لأخى زكى سالم...» بهذه الطريقة يتحدث الحاصل على جائزة نوبل فى الأدب، عن كاتب شاب يقدم أولى مجموعاته القصصية، فيقول عنه ببساطة أخى، إلى هذا الحد كان تواضعه، وسماحته، ورقيه الإنسانى الذى لا مزيد عليه. وثمة حوار مهم دار بيننا بعدما أنهيت دراستى فى كلية التجارة، وأردت أن أحقق حلمى القديم، بدراسة الفلسفة فى الجامعة دراسة أكاديمية، لكنه قال لى: إذا أردت أن تدرس فى كلية الآداب، فمن الأفضل أن تدرس أدبا عربيا، أو أدبا إنجليزيا، فأنت تكتب القصص، ودراسة الأدب أفضل لك من دراسة الفلسفة. وأضاف: أنا أخطأت فى دراسة الفلسفة! كيف أخطأت يا أستاذنا؟ قال إنه كان فى زمن أساتذة كبار من المفكرين، طه حسين، وعباس العقاد، وسلامة موسى، ومن ثم فقد تمنى أن يصبح مفكرا مثلهم، وبالتالى فالطريق الأقرب لذلك هو دراسة الفلسفة لا الأدب! قلت له: أتظن أن دراستك للأدب بدلا من الفلسفة كانت أفضل لأدبك، أو لما قدمته من إبداع عظيم؟ فقال: لا أستطيع أن أجزم بذلك، لكن من يهتم بالأدب يدرسه. فقلت: الأدب يسمح لنا أن نقرأه بطريقة حرة، وكذلك كتب النقد الأدبى، أما الفلسفة فهى بحاجة إلى دراسة أكاديمية منظمة. وهذه تعد من نقاط الخلاف القليلة، التى ثارت بينى وبين أستاذى العظيم، وتدور حول أهمية الفلسفة للأدب. فأنا أراها شديدة الأهمية، إذ تتغلغل فى ثنايا الأدب العظيم، فتعطى قوة فكرية للعمل الأدبى، ومن ثم عمقا وخلودا. فالأديب العظيم -فى ما أرى- لا بد أن يكون صاحب رؤية متكاملة للحياة، وفلسفة متسقة، يتم التعبير عنها بطريقة أدبية، من خلال شعره أو قصصه أو رواياته، وكذلك كان نجيب محفوظ فيلسوفا للرواية. لكن للأمانة لم يكن نجيب محفوظ يتفق معى فى هذه الرؤية، إذ يرى أن الفلسفة يمكن أن تدخل كعنصر ضمن عناصر أخرى كثيرة تجتمع معا لتشكيل العمل الأدبى الجيد، فكنت أقول: حتى لو كان الأمر كذلك فعنصر الفلسفة هذا يعد عنصرا مقدما على غيره من العناصر، فكان يصر على رفض هذه الأولوية التى أعطيها للفلسفة، إذ إن الفلسفة، أو الفكر بوجه عام يمثل عنصرا مثل أى عنصر آخر يتشكل منه العمل الأدبى.