عندما قرأت رواية «زقاق المدق» لنجيب محفوظ، منذ سنوات طوال، كانت شخصية «زيطة» صانع العاهات من أكثر الشخصيات إثارة لانتباهى، حتى لقد أحدثت جدلا داخل نفسى.. كيف يحتمل الإنسان أن يذهب بمحض إرادته إلى صانع العاهات ليقوم ببتر ساقه أو قطع يده أو فقء عينه، فيصير بعدها مؤهلا لشق طريقه فى عالم التسول، ومن ثم يضمن ملء معدته يوميا. كنت أسأل نفسى: هل الإنسان عبارة عن معدة فقط؟ ألا يوجد لدى هؤلاء الناس شىء اسمه الكرامة أو الكبرياء أو عاطفة اعتبار الذات.. ألا يوجد أى بُعد روحى أو حس دينى أو شعور بالمجردات؟ ثم عرفت حجم سذاجتى، واكتشفت أن الفقر يهوى بالكرامة إلى أسفل سافلين، ويدهس الكبرياء فيقتله ولا يتبقى للإنسان سوى الغرائز التى تساوى بين الإنسان والحيوان، وتصير القضية الأساسية الملحة هى: الوجبة التالية وكيف يمكن الحصول عليها! هذا شأن زيطة وزبائنه، فما بال بعض الناس حتى اليوم وكأنهم خرجوا لنا من روايات نجيب محفوظ؟ لقد كشفت لى الأيام أن كثيرا ممن صعدوا اجتماعيا من أسفل السلم وحققوا قدرا من الثراء المادى لا يزالون غير مصدقين أن بإمكانهم أن ينعموا بالكرامة ويمارسوا العزة والاعتداد بالنفس، ويخشون أن الثروة التى تحققت بالخضوع والإغضاء والامتثال، قد تضيع مع أول موجة كبرياء يفكرون فى اعتلائها، فيؤثرون الذل وهم أثرياء ولا يرضون عن الانبطاح بديلا، ويتصرفون كأنهم خرجوا من تحت يد زيطة بعاهة أبدية لا يبرؤون منها أبدا، وهى التى تضمن لهم الفيلا والسيارة والمنصب والرصيد الضخم فى البنك. إننى لا أستطيع أن أمنع نفسى من الضحك عندما أرى أحد المسؤولين يجلس فى حضرة رئيسه وقد مال بجسمه إلى الأمام وهو على كرسيه، ولا يستطيع أبدا أن يسند ظهره إلى المقعد.. هل لاحظتم هذه الجلسة التى يخشى فيها المرؤوس من مجرد سند ظهره وكأن الجلسة المتوترة غير المريحة صارت من علامات إظهار الاحترام لرئيسه؟ وهذا الرئيس نفسه يجلس الجلسة نفسها أمام رؤسائه.. وهكذا. هذه الجلسة الخانعة الذليلة لم أشاهدها أبدا فى بلاد برة، حيث الناس يجلسون وظهورهم مفرودة وعمودهم الفقرى مستقيما فى حضرة أى إنسان، لقد شدت الحرية ظهورهم، وسلطان القانون جعل منهم بشرا أحرارا يتداولون السلطة فى ما بينهم، فى حين أن الديكتاتورية والاستبداد وغياب القانون خلقت لدى الناس عندنا تشوهات نفسية، وجعلت حتى الأغنياء يعيشون من خوف الذل فى ذل. وهناك نماذج عديدة للسيد زيطة منتشرة فى الحياة السياسية والإعلامية بكثافة هذه الأيام، وقد لاحظت عند مراجعة أسماء المجلس الاستشارى، الذى انبثق فى وجوهنا الأسبوع الماضى، وجود أكثر من شخصية ممن صنعوا لأنفسهم عاهات يضمنون بها القرب والوصال الذى لا يستغنون عنه.. هذا على الرغم من وجود شخصيات كثيرة نظيفة دخلت هذا المجلس ظنا منها أنه قد يكون بابا لخدمة الوطن، لكن تقديرى أن أبناء زيطة سوف تكون لهم الغلبة والكلمة الفصل بهذا المجلس، ولسوف يعملون جاهدين على ضرب التجربة الديمقراطية الوليدة من خلال تدخلهم فى ما لا يعنيهم من شؤون الوطن ومحاولة القفز فوق البرلمان المنتخب، وسط تهليل ممن يزعمون الليبرالية، وهم يكرهون الانتخابات إذا لم تأت بأصدقائهم! والحقيقة أن أبناء زيطة لم يتركوا مجلسا حكوميا بعد الثورة إلا والتحقوا به وارتموا فى أحضانه، ذلك أنهم بعاهاتهم القديمة أدركوا أنه لن يكون لهم مكان بالعهد الجديد إذا ما تمكنت الثورة وحكمت وفرضت شروطها، وهذا سر استعانة السلطة بهم طوال الوقت واستدعائها لهم على عجل للقيام بالأدوار المطلوبة.. وليس المجلس الاستشارى فقط من يضم نفرا من خريجى معهد زيطة، لكن هؤلاء تجد مثلهم فى المجلس القومى لحقوق الإنسان الذى شكله الدكتور يحيى الجمل، ورأينا فيه أناسا معادين بطبعهم للإنسان وحقوقه ويشهد تاريخهم فى خدمة مبارك وولده بحقيقتهم، وهذا غير مجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتليفزيون الذى استحوذ زيطة فيه على نصيب الأسد.. وهذا غير مستغرب على كل المجالس التى تشكلها السلطة بغرض الحفاظ على قيم مبارك وتقاليده! أما عن المشهد الإعلامى بعد الثورة، فالصورة لا تختلف كثيرا، لأن من شوههم صفوت الشريف ومباحث أمن مبارك ثم دفعوا بهم للساحة ليؤدوا المهمة المطلوبة، ما زالوا منتشرين، وزحفهم يزداد على الخريطة الإعلامية، بل إنهم حققوا بالثورة ما عجزوا عن تحقيقه قبلها، ومن يطل على المشهد بعمق يرى أن معظم الموصومين فى تليفزيون الوكسة الشاملة وصحافة القط الأسود قد هجروا أماكنهم السابقة والتحقوا بقنوات وصحف خاصة يستطيعون فيها أن يحدثوا هرجا ومرجا يظنه المغفل إعلاما، وهو محض غسيل للسمعة ومحاولة للتغطية على العاهة التى ذهبوا بقدميهم إلى زيطة ليحدثها فيهم! إن الراصد العظيم نجيب محفوظ، لم يخترع شخصية زيطة.. هو فقط اكتشف وجودها فقدمها إلينا، ولا أظنه كان يتصور أن الظروف التى أفرزت زيطة وقت الحرب العالمية الثانية فى «زقاق المدق»، سوف تستمر حتى الآن وبعد ثورة عظيمة، وأن زبائن جددا من أكلة العيش الطرى سوف يقفون فى الطابور على باب زيطة ليشوههم قبل أن يدفع بهم للسوق!