مخطئ هو من يتصوّر أن الانتخابات الأخيرة لم يكن بها الكثير من التزوير، فالناس قد ذهبت إلى صناديق الانتخاب بإرادتها الحرة، ووقفت فى طوابير طويلة؛ لتمنح أصواتها لمن اختارته، وعمليات الفرز كانت نزيهة، ولا يمكن التشكيك فيها، وعلى الرغم من هذا، فقد شهدت الانتخابات الأخيرة أكبر وأسوأ وأخطر عملية تزوير انتخابى، ليس فى تاريخنا وحده، ولكن عبر التاريخ كله؛ فالتزوير هنا لم يكن تزوير أصوات، أو حتى تزوير إرادة، بل كان أخطر أنواع التزوير على الإطلاق.. إنه تزوير وعى شعب كامل، وتحويل منافسة سياسية إلى حرب طائفية مستعرة وصراع أديان لا علاقة له بالسياسة فى أوّل تجربة ديمقراطية منذ عقود. وكل الذين طالعتنا وجوههم من المشجعين والمحرضين على هذا تحدّثوا عن كيفية «تأديب وتهذيب وإصلاح شعب» لا عن كيفية «النهوض» بالشعب، وانشغلوا بمحاولات، لم تؤت ثمارها مرة واحدة فى التاريخ بالسيطرة على ضمائر الناس وفرض الحصار على عقولهم وأفعالهم، وليس بإصلاح الاقتصاد، أو رفع قيمة العمل والعلم، وكأن الشعوب تنهض وتتطوّر لأنها فقط (مؤدبة)، ولأن من يحكمها يريد أن يصبح علينا بمسيطر، وليس علينا بمذكّر، ويريد أن يُكرِه الناس، حتى يكونوا مؤمنين، مخالفا بهذا ما نصحه به رب الكون عز وجل الذى قرر جل جلاله، أنه لا إكراه فى الدين. وفى التاريخ الإسلامى كله، لم يؤمن شخص واحد قهرا أو خوفا، بل دخل الناس فى دين الله العلى القدير أفواجا، لسماحة الدين وعفوه. وهذه ليست محاولة لتغيير ذلك الفكر القمعى، الذى يتخفّى خلف رداء دينى، لأن أصحابه لن يقنعوا حتى بمناقشته، ولكنه تحذير من ذلك التزوير المخيف للوعى فتزوير وتزييف الإرادة أمر يدركه الناس ويبغضونه ويعادونه، حتى ولو استسلموا له مرحليا. أما تزييف الوعى فهو تدمير لمستقبل أمة، ولأملها فى الانتقال من حال إلى حال. والسياسة أشبه بلعبة شطرنج للمحترفين، لا يمكن أن يربحها الأكثر إيمانا، ولا الأكثر طيبة، ولا حتى الأكثر أدبا، وإنما يربحها فقط الأكثر خبرة وحنكة ومهارة، والعجيب أنه إذا ما مرض الإنسان، وأصابت جسده عِلة، فإنه يلجأ إلى أفضل من يعالج هذه العلة، حتى ولو كان ماجوسيا أو ملحدا، أما إذا أصاب وطنه ومستقبله مرض، فهو ينسى فكرة الكفاءة تماما، ويدخل فى منافسة طائفية. والدين هو عماد الحياة، ولكن الكثير من المواقف السياسية، تحتاج إلى فكر ومرونة ورجاحة عقل، وفهم للتعقيدات السياسية العالمية.. ومازال لحديث الانتخابات الطويل بقية.