تخيل نفسك مواطنا كادحا بسيطا تستمع إلى شخص يعاونك على حل مشكلاتك الحياتية ويخبرك أن المدافعين عن الحريات الشخصية كفار يؤيدون الانحلال وشرب الخمر، بينما يأتيك شخص آخر لا يقدم إليك أى عون ليخبرك بكلمات كبيرة طنانة أن نزع الحريات الشخصية يؤدى بالضرورة إلى تكميم الأفواه وقمع المعارضة ضد نظام الحكم، لأن معاملة البشر كأنهم قطيع متمرد يساق إلى الجنة بالكرباج هو بداية الطريق إلى الديكتاتورية، وأن من يقبل التخلى عن حريته الشخصية خوفا من عصا المطوِّع لن يتجاسر على المطالبة بحريته السياسية فى مواجهة سيف الحاكم. قل لى بالله عليك من ستصدق منهما؟ أترك الإجابة لك. لا شك أن بناء دولة مدنية تؤمن بالحريات الاجتماعية والسياسية على أنقاض دولة سلطوية تعانى غالبية سكانها من الفقر والأمية، لا يتحقق بكلمات كبيرة طنانة تقال على ألسنة المثقفين والكتاب عن حرية الرأى، والاعتقاد، والمساواة وحقوق المواطنة الكاملة، لأن تحقيق ذلك الهدف فى دولة حديثة العهد بالديمقراطية أمر يحتاج إلى دعم من جماهير لن تدافع عن تلك الأفكار إلا عندما تتأكد من أن منعها على يد سلطة دينية أو عسكرية سيؤدى إلى خسارتهم كفقراء لمصالح مادية تزيد من معاناتهم على أرض الواقع، وهو أمر ليس له أى نصيب من الصحة فى حالتنا المصرية الراهنة. فمن المؤكد أن التيارات المصرية المدافعة عن مدنية الدولة لم تقدم طوال عقود متتالية سوى القليل من الخدمات الاجتماعية والكثير من الكلمات الرنانة التى لا تهم البسطاء الذين لن يمنحوها بالقطع تأييدا شعبيا لقيادة سفينة الوطن، رغم أنهم قد يشيدون بتضحيات تلك التيارات التى دفع كثير ممن ينتمون إليها ثمنا باهظا من حياتهم وحريتهم وصحتهم ولقمة عيشهم خلال رحلة دفاعهم عن مبادئهم. والقائمة طويلة لا تبدأ بنبيل الهلالى محامى المستضعفين، وفؤاد حداد مسحراتى الوطن الصارخ فى وجه الطغيان، ولم ولن تنتهى بشباب ثورة يناير المناضلين الذين فقدوا حياتهم ونور عيونهم وحريتهم أمام محاكم عسكرية تفتقر إلى أدنى شروط العدالة. كلهم مناضلون يحترمهم البسطاء، لكنهم ينظرون إليهم بحذر ككائنات مثابرة أتت من المريخ! هزيمة التيارات المدنية فى صندوق الانتخابات لا ينبغى أن تثير اليأس، ولا يجب أيضا أن يتم تعليقها ببساطة وسطحية على شماعة الفقر والجهل بدلا من النزول إلى الشارع والبدء فى مساعدة الناس لتحسين أحوالهم المعيشية الصعبة بالتزامن مع توعيتهم بأن قبولهم لتقليص مساحة حرياتهم خدعة غرضها أن يخضعوا إلى قهر السلطة ويسلموا أمرهم إلى قيادة مستبدة تحتكر الصواب، وترفض مناقشة آرائها التى قد لا تصمد أمام الرأى الآخر فى مناخ يحتكم إلى الديمقراطية التى ترفضها تلك التيارات لأنها ملزمة، بينما تقبل بالشورى لأنها اختيارية. هذه قضايا فكرية تنهار على أرض الواقع بنفخة من أفواه من يقدمون الخبز والعلاج والخدمات. ألم يقل الأقدمون عض قلبى ولا تعض رغيفى؟ وتفسيرها: خذ حريتى وأعطنى حلولا لمشكلاتى الاجتماعية، حتى إن كانت حلولا وقتية. ما أسهل أن يقول المثقف الثورى لمواطن عانى الظلم والتهميش طوال حياته: استمر فى معاناتك ولا تتنازل عن حريتك لأنها المدخل الحقيقى لعدالة اجتماعية مستقرة تستند إلى ديمقراطية تمنحك حق الاختيار بين بدائل متعددة؟! هذا كلام فلسفى لا يعد بحل قريب. قل ما تشاء من ذلك الكلام الكبير، سيستمع الجائع المكدود لك بينما يسلم رقبته إلى أقرب طوق يضعه حول عنقه من يمسك برغيف يسد جوعه. ما أطرحه ليس رفضا لاختيار الشعب أو تعاليا عليه. التعالى الحقيقى على الشعب هو أن تعامله مختلف التيارات كقطيع يساق بالعصا، وتتهمه بأنه لا يفهم دينه أو مصلحته وتفرض وصايتها عليه، بينما تنافقه وتتغنى بحكمته! تسليم مفتاح الحرية مبادلة تتم بين محتاج إلى لقمة وطامع فى ديكتاتورية. السلطة الدينية مثلا تحتكر الصواب رغم أن الدين فرِقُ وشيعُ تعتقد كل منها أنها الفرقة الناجية وتتقاتل مع غيرها لكى تنتصر لتفسيرها المذهبى الخاص منذ أربعة عشر قرنا حتى كتابة هذه السطور! الحريات حائط الصد الوحيد ضد ديكتاتورية ترتدى ثوب الدين أو رداء الحكم العسكرى، لذا فدائما ما تتم محاولة سحقها. انظر إلى الخوف من حرية الفكر الذى يدفع محتكرى الحكمة على اختلافهم إلى عدم مناقشة الآراء والاكتفاء بتحريض أنصارهم لمهاجمة من يطرحون أفكارا مغايرة، وشخصنة الخلافات الفكرية بدلا من محاولة الرد عليها بموضوعية وأدب. راجع سلسلة اتهامات شيوخ الفضائيات واللواءات والخبراء الاستراتيجيين لمعارضيهم واتهامهم بالماسونية والعمالة بلا دليل، واقرأ التعليقات التى لا حصر لها على مختلف مقالات الرأى، لتجد أن أغلبها يهدف إلى ردع الفكر الآخر بالإهانة، حتى إن التزم صاحبه بالهدوء والموضوعية. ببساطة يتم سحق الحرية لتسود ثقافة القطيع باستخدام الأكاذيب وكلاب الحراسة التى تعقر من يحاول اتخاذ مسار مختلف. ليست صدفة إذن أن كل النظم القمعية المستبدة تحتقر الفكر والفن والحريات وتفرض عليها التحريم. أباطرة الحزب الشيوعى السوفيتى السابق قمعوا حرية الفكر والفن، وضاقوا بانتقادات ماياكوفسكى شاعر الثورة الروسية العظيم، ودفعوه إلى الانتحار بعدما هاجم بقصائده بيروقراطيتهم وضيق أفقهم. لا تتعجب إذن عندما ترى النظم المستبدة المختلفة عبر التاريخ وهى ترتعد أمام الأدب والفكر والغناء والحريات، لأنها مصابيح تنير ظلام العقول والأرواح، وربما تنشر التمرد بين الحشود وتخرجها عن هرولتها العمياء خلف محتكرى الحكمة، الذين لا يريدون لأحد أن ينافسهم على القيادة، حتى لو كانوا يتجهون بالمهرولين خلفهم إلى الهاوية.