عند مدخل نفق المترو فى مدينة واشنطن العاصمة، صبيحة السابع من يناير عام 2007، وقف رجل بجانب الحائط المقابل لبوابة النفق، وكان يحمل حقيبة صغيرة، نظر الرجل نظرة سريعة إلى الجموع الغفيرة من البشر الذاهبين إلى أعمالهم واللاهثين وراء قطارات المترو المتعاقبة، ثم فتح حقيبته الصغيرة وأخرج آلة موسيقية خشبية صغيرة.. هى آلة الكمان «الفيولين»، ترك الحقيبة مفتوحة على الأرض، كما هو شائع لموسيقيى الشارع، ثم بدأ يعزف بعض المقطوعات الموسيقية لباخ. استغرق عزفه مدة 45 دقيقة كاملة دون توقف، عَبَر خلالها نحو 2000 شخص نفق المترو، مارّين بذلك العازف، غير أنه من الألفى عابر، لم يقف سوى 6 أشخاص ليستمعوا له، أغلبهم أطفال لم يكونوا قادرين على الوقوف طويلا نظرا لتذمر آبائهم، الذين قام جميعهم بجذب أطفالهم لاستكمال السير.. عشرون شخصا فقط قاموا بإلقاء النقود فى الحقيبة الصغيرة دون أن يتوقفوا للاستماع.. بعد انتهاء العازف من مقطوعاته، لم يصفق أحد على الإطلاق، واستمر المشهد كأن لم يكن له وجود أصلا. حتى الآن الأمر يبدو طبيعيا، فكثيرا ما يرى الناس هناك هؤلاء التعساء من الفنانين يعزفون بعض المقطوعات البائسة استجداء لدولار أو دولارين.. وبالفعل هذا الرجل استطاع جمع 36 دولارا فى ساعة واحدة. ولكن المدهش حقا، أن هذا الرجل هو جوشوا بيل، أحد أعظم عازفى الكمان فى العالم، وآلته الصغيرة تلك يقدر ثمنها ب3.5 مليون دولار، والمقطوعات التى عزفها تعد من أعقد المقطوعات الموسيقية على الإطلاق.. وقبل يومين فقط، كان يعزف نفس المقطوعات على مسرح بوسطن أمام جمهور كامل العدد، وبتذكرة قيمتها 100 دولار للمقعد! كانت هذه التجربة جزءا من تجارب اجتماعية قامت بها صحيفة «واشنطن بوست»، لتحليل كيفية إدراك الناس للفن. والنتيجة تستحق التأمل فعلا وتطرح الكثير من التساؤلات، فإذا كنا لا ندرك الجمال ولا نتذوقه، ما دام أتى فى وقت غير ملائم.. فهل يمكن أن ننخدع بجمال زائف ما دام نحن مهيئين له نفسيا؟ ويبقى السؤال المرّ بالنسبة إلىّ: ترى كم موهوبًا دفناه بأيدينا لا لشىء إلا أنه أتانا فى ظروف غير مناسبة؟