رفضت إدارة مهرجان «دبى» فى هذه الدورة عددا من الأفلام التى جاءت من مصر وليبيا واليمن، وهى تتناول ثورات الربيع العربى.. لم يكن الأمر متعلقا بموقف سياسى للمهرجان، والدليل أننا بعد غد سنشاهد فيلم «مولود يوم 25 يناير» للمخرج أحمد رشوان، والفيلم ليس فقط منحازا إلى الثورة، بل يصل زمنيا إلى تقديم الصراع بين الثوار والمجلس العسكرى.. الأمر هنا متعلق بقيمة العمل الفنى على المستوى الإبداعى لا التوجه الفكرى أو السياسى الذى يحمله الفيلم، لقد تابعنا عشرات من الأغنيات والأفلام التى رفعت شعار الثورة عاليا خفّاقا، واكتشفنا أن قسطا وافرا منها لا علاقة له بالثورة بقدر ما هو استثمار ساذج لها، وكان قد أتيح لى أن أرى أكثر من 15 فيلما تسجيليا، قدمها مخرجون يرصدون الثورة، وبعضهم بالمناسبة كان فى الميدان منذ 25 يناير معرضا حياته للخطر، ورغم ذلك فإن هذه الأفلام من فرط سذاجتها، هى التى تعرض حياة من يشاهدها لمخاطرالعدوى بالتخلف الفكرى!! دائما ما أرى فروقا جوهرية بين أن تعيش الحالة وأن تعبر عنها، إنها المسافة بين الواقع والإبداع.. تعودنا دائما أن نقول فى جملة صارت أشبه ب«الكليشيه» فلان عاش التجربة ولهذا أجاد التعبير عنها بصدق، وكأننا نعتبر الفن هو التجربة بكل مرارتها أو حلاوتها.. الصدق الفنى أهم عناصره ليس فقط أن تعيش الواقع، ولكن أن تملك الأدوات فى التعبير عنه، وهناك عشرات من المواقف تؤكد أنه لا يكفى أن تحب لكى تجيد الحديث عن الحب.. هناك ملايين من «العناتر» وملايين من «العبلات»، ولكن «عنتر» واحد فقط هو الذى خلد عبلة بقصائده، وهناك مليون «قيس» كانوا من المجانين ب«ليلى» كل منهم له ليلاه.. واحد فقط وهو «قيس بن الملوح» الذى نذكر له روائعه مثل «أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا.. وما حب الديار ملكن قلبى ولكن حب من سكن الديارا». ولهذا كان ينبغى أن لا تتورط المهرجانات فى الترحيب بأى عمل فنى أو فنان لمجرد أنه كان لديه موقف إيجابى مع الثورة، فيصبح هو النجم الذى تتخاطفه المهرجانات.. القيمة الإبداعية هى الأساس، سواء فى اختيار الضيوف، خصوصا المشاركين فى لجان التحكيم أو الأفلام.. مثلا المخرجان السوريان المعارضان لنظام بشار، محمد ملص ونبيل المالح، توجه إليهما الدعوة باعتبارهما مخرجين كبيرين قبل أن يكونا معارضين للنظام، وهكذا مثلا كان ملص رئيسا للجنة تحكيم مهرجان «الدوحة ترابيكا» فى دورته الثالثة التى أقيمت فى نهاية أكتوبر، واختير هذه الدورة فى مهرجان «دبى» رئيسا للجنة تحكيم المهرجان فى مسابقة الأفلام الإماراتية.. عمرو واكد شارك فى ندوة رئيسية عن ثورات الربيع العربى فى مهرجان «أبو ظبى»، وهو أيضا عضو لجنة تحكيم «المهر العربى» للأفلام الروائية الطويلة فى «دبى».. الفيصل هو القيمة الفكرية التى سيستند إليها العمل الفنى أو القيمة الإبداعية للفنان تاريخه الفنى قبل السياسى. ليس لدى شك فى أن بعض الفنانين والفنانات الذين خاضوا الانتخابات البرلمانية مؤخرا فى مصر، كان لديهم حسبة أخرى، هى الوجود على الخريطة وليس الترشح، ولم يفكروا حتى فى النجاح، كانوا يعلمون من البداية أنهم سيخسرون معركتهم السياسية، لا يملكون رؤية إلا أنهم كانوا واثقين أن الخطة ناجحة، وهى أن الصحف والفضائيات من خلال برامج التوك شو سوف تحرص على استضافتهم، وهكذا يجدون لأنفسهم مساحة عبر الفضائيات، فلم يكن قبل الثورة مسموح لهم بالوجود فى مثل هذه البرامج، لأنهم خارج الأجندة الفنية، وهكذا حرص بعضهم على أن يذهب إلى التحرير أو يرسم العلم على وجهه، ويتقدم للترشح لعل وعسى يلتقطه أحد البرامج!! الاستثمار وارد فى كل شىء فى الدين والسياسة والثقافة والفن.. الكل من الممكن أن يلعبها فى لحظة سياسة، وأن يركب «توك توك» الثورة، ما دام أنه حاليا هو الذى يقش ويكسب، لكن «توك توك» الثورة مثل برامج التوك شو، بها كثير من الادعاء وقليل من الصدق، ولهذا جاء موقف إدارة المهرجان «دبى» من خلال رئيس المهرجان عبد الحميد جمعة، والناقد مسعود أمر الله مدير المهرجان، متسقا مع المنطق الفنى، عندما قالا لا لأفلام توك توك ثورات الربيع!!