كان موقفا مربكا، لكن أبا العاص بن الربيع لم يفكر لحظة، كان قد انتوى الدخول فى الإسلام ولم يكن قد أخبر أحدا بعد، وكانت معه أموال بعض مشركى مكة، فقدم له بعض المسلمين عرضا مغريا: يا أبا العاص هل لك أن تسلم، وتأخذ هذه الأموال، فإنها أموال المشركين؟ كان الموقف -كما قلنا- مغريا، لكن أبا العاص رد على الفور مستنكرا: بئس ما أبدأ به إسلامى أن أخون أمانتى! عاد أبو العاص بالمال إلى مكة، ورد الأمانات إلى أهلها، ثم سأل مشركيها: يا معشر قريش هل بقى لأحد عندى مال؟ قالوا: لا فجزاك الله خيرا، قد وجدناك وفيّا كريما. فقال: فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فى هذه القصة الجميلة، لم يبحث أبو العاص عن «تخريجة» تسمح له بأخذ المال، ولم يكن فى حاجة إلى مبرر أصلا فالإسلام يجبّ ما قبله، ولأنه كان مال مشركين يحق له أخذه -فى نطاق الحرب المتصلة بين المهاجرين وقريش- لو نطق الشهادتين، لكن أبا العاص أدرك بفطرته حقيقة مهمة، هى أن الدين مقاصد ومبادئ لا شكليات أو ألاعيب، وبما أنه كان قد خرج من مكة بمال المشركين قبل أن يقرر الدخول فى الإسلام، وبما أن المشركين قد حفظوا أموالهم معه وائتمنوه عليها، فإن استيلاءه على المال كان سيُعد من قبيل «خيانة الأمانة»، بغض النظر عن دخوله الإسلام من عدمه. وبغض النظر عن ديانة أصحاب الأمانة، لقد رأى أبو العاص الأمر من زاوية بسيطة واضحة: إذا كان الإسلام قد جاء ليتمم مكارم الأخلاق، فإنه لا ينبغى على المسلم أن يخالف الأخلاق «يخون الأمانة» تحت راية الإسلام. لقد كانت نصيحة رفاقه تبدو صحيحة شكليا «أن يُسلم ويحتفظ بالمال»، لكن بينه وبين نفسه، أمام ضميره وأمام الله، كان يعرف أن هذه خيانة لا أقل. والأسوأ أنها كانت ستتم تحت شعار دينى. ماذا لو أضفت إلى القصة السابقة ذلك الحديث الشريف الرائع «خياركم فى الجاهلية خياركم فى الإسلام»، لقد كان أبو العاص نموذجا مثاليا لذلك الحديث، والخلاصة أن المبادئ لا تتجزأ ولا تتبدل بتبدل الظرف أو حتى العقيدة، فلو تعارض تفسير دينى مع مبدأ أخلاقى واضح «كما فى قصة أبى العاص»، فلا شك أن فى ذلك التفسير الدينى شيئا خاطئا، فالدين لا يمكن إلا أن يوافق المبادئ، كحفظ الأمانة والصدق ونصرة المظلوم. حين تسمع تلك القصص عن حياة السلف الصالح، ربما تضرب كفا بكف لدى رؤيتك من ينسبون أنفسهم الآن إلى أولئك السلف، المفارقة ليست فى درجة الاختلاف بين السلفيين والسلف فحسب، بل إن كثيرا من الإسلاميين تبدو تصرفاتهم هى الأبعد تماما عن تصرفات السلف من أى فصيل سياسى آخر، فبينما اندفع شباب الثورة من الليبراليين واليساريين والقوميين والمستقلين إلى نصرة إخوانهم فى التحرير وواجهوا القتل والإصابة وفقء العيون، إذا بالإسلاميين، يتخلون عن زملاء الكفاح ورفاق الثورة وإخوة الوطن بل والدين، سقط 35 شهيدا تضرجت الأرض بدمائهم تباعا، بينما كان الإسلاميون «الإخوان ومعظم السلفيين» حصريا هم المتخلين عن إخوتهم، خوفا من تأجيل الانتخابات! هل كان تصرفهم سليما بمعايير السياسة «الانتهازية بطبعها»؟ هذا أمر ستسفر عنه الأيام المقبلة، لكن المؤكد أن تصرفا كهذا لا يمت بأى صلة إلى الدين الذى يعطى حرمة دم المسلم الأولوية القصوى على كل شىء آخر، مجرد الوجود الكثيف كان ليشكل حماية تردع أى عنف، وهذا ما حدث عندما توافد الناس إلى الميدان حتى ملؤوه، بينما ظل الإخوان بعيدين بحجة الخوف من الاستدراج ومن ثم إجهاض الانتخابات. والواقع أنك إذا تخليت عن المبدأ الأخلاقى الأساسى فلن يصعب عليك تقديم المبررات والنظريات، بدءا من الخوف من الفتنة وصولا إلى إفساد المخططات.. إلخ. ومع ذلك فقد جاء إلى التحرير بعض من شباب الإسلاميين «من الجبهة السلفية»، وهم الذين فهموا ما أدركه أبو العاص بن الربيع «قبل 1400 عام»، وهو أن الدين لا يمكن أن يتعارض مع المبدأ الأخلاقى، فلو طلب منك أحدهم أن تتخلى عن إخوتك، فإن «السمع والطاعة» هنا هما لا شك فى معصية الخالق. إن مثل تلك المواقف لا مفر منها كلما استخدمت الدين فى السياسة والسياسة فى الدين، فإن خلطت بينهما فلا أقل من أن تتبع المبدأ الأخلاقى، حتى لا يعمل الانتماء الدينى ضد نفسه، فلا يعقل أن يؤدى التحاقك بتيار دينى، إلى تخليك فى النهاية حتى عن المبادئ الإنسانية الصحيحة الفطرية التى يلتزم بها الآخرون، وقد توقعت منك عندما قالوا لك أن لا تذهب إلى التحرير كى لا تفسد الانتخابات، أن تقول لهم: بئس ما أكسب به انتخاباتى، أن أخون إخوتى.