أعترف أنه فى لحظة ما، لحظة إسالة الدماء، وفقأ العيون، وسقوط آلاف الشباب بسبب الاختناق، وقطع الأنفاس، وسط السحل والقهر والظلم والفُجر (بضم الفاء)، وسط عبث لا يمكن تخيله أو تفسيره من فرط استخدام العنف والقسوة ضد المواطنين، وسط مشاهدات لشباب يسقط منفجر المخ خارجا من رأسه بسبب الأعيرة النارية من القناصة، وسط مشاهدات، بل وثائق بالصوت والصورة تبين لمن يرى ويعى ويحس.. وسط كل هذا لا يمكن ولا يصح أن تضيع وقتك فى الرد على ذلك السؤال اللعين الذى -وسامحونى فى التعبير- يدل إما على جهل لعين وإما على وحشية وغباء، أشعر أنه من العبث أن تستهلك وقت وطن فى الرد على سؤال «همّا مين اللّى فى التحرير دول؟». أصبحت لدىّ درجة عالية من الحساسية المفرطة كلما شممت رائحة هذا السؤال، فأكتفى بالقول: انزل وشوف بنفسك! وعندما يسأل أحد نفس السؤال بصيغته الاستنكارية الهجومية، أقول له: ربنا ما يحرق قلبك على ولادك ولا حد من عيلتك علشان تعرف مين اللى فى التحرير دول. وأتوقف تماما عن الرد عندما يجيبنى البعض «وهمّا إيه اللى ودّاهم أساسا هناك؟» عندما يصل بهم الكلام إلى هذا الحد فلا بد أن ينتهى معهم الحوار فهو انتهاك آخر لحرمة دم هؤلاء الشهداء، وأضبط نفسى بمنتهى الغضب، وأقول: خسارة فيكم دم هؤلاء الشهداء الذى ستنعمون بسببه أنتم وأولادكم بالحرية والكرامة فى هذا البلد يوما ما. لست بصدد تصنيف المجتمع ولا الانشغال بفكرة مَن مع ومَن ضد، لكن الصورة أكبر وأعمق وأخطر، الصورة التى عاشها شباب ورجال ونساء وفتيات داخل هذا الميدان، ناس هذا البلد الذين قرروا أن لا يكونوا صامتين، متفرجين، محللين سياسيين، قرروا فقط أن يكونوا «بنى آدمين»، وإذا اقتربت منهم أكثر وأكثر وسمعت رواياتهم وشهاداتهم ستعلم أنهم «ملائكة رحمة وإخلاص ووفاء وإنسانية ووطنية.. ملائكة الشجاعة والبطولة والكرامة». كثيرون من شباب متطوعين داخل المستشفيات الميدانية، أطباء صغار يفوق عددهم بكثير عدد الأطباء الكبار، شباب امتياز، طلاب فى كلية الطب، مواطنون شرفاء لهم معرفة بالتمريض والإسعافات، شباب من أطباء الصيدلة. مشهد أقرب إلى الخيال، مشهد يؤكد لك أن مستقبل هذا البلد سيكون رائعا لأن هذا الوطن زاخر بشباب وأناس مثل هؤلاء الذين رأيتهم داخل ميدان التحرير، وخصوصا داخل المستشفيات الميدانية. المستشفيات الميدانية وحدها ملحمة وطنية يمكن الكتابة عنها مئات الصفحات كوثيقة تاريخية واجتماعية ستكون دليلا يوما ما فى قراءة أعماق الشخصية المصرية. وما سأرويه مجرد مشاهد مجردة عابرة من خلال بعض الوقت القصير الذى قضيته وتحدثت فيه مع بعض أطباء الميدان. داخل نفس المستشفى الميدانى فى ثورة يناير، فى مسجد عباد الرحمن بباب اللوق وبجوار شارع محمد محمود، مستشفى داخل ساحة القتال، رائحة الغاز تسيطر على المكان تظهر آثارها على عيون الأطباء وكل من فى المكان، وعلى أصواتهم المنهكة، عيونهم الحمراء الملتهبة الدامعة من فرط الغاز، حركة نشاط تعاند الموت وتتحدى الظلم، ذلك المستشفى الذى أعلن الطوارئ ثانية، لكنها طوارئ بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ.. طوارئ حرب. مواطنون رائعون يأتون إلى داخل المستشفى يسألون: فيه حاجة ناقصاكم ؟ نقدر نساعد إزاى؟ فى ليلة مليونية الجمعة 25 نوفمبر، كنت هناك فى هذا المستشفى وتحدثت مع أحد الأطباء البواسل وهو د.عمرو حجازى فقال: «هذا الشعب رائع ويستحق الحياة والحرية... لا تتخيلى مدى العنف الذى ضُرب به الشباب، أقول ما شاهدته لأن هذا ما سيحاسبنى به الله: عدد القتلى ليس 38 ولا هذه الأرقام أنه يفوق هذه الأرقام كثيراً، فلا يمكن أن يقل عن 300 شهيد. بالأمس فقط وفى ساعة واحدة كان بين يدىّ أربعة قتلى منهم شاب جاءنا و(مخه خارج رأسه) بسبب عيار نارى، والله العظيم على يدى كان هذا الشاب أمام عينى. زميلاتنا الطبيبات الصغيرات، إحداهن فى ثالثة طب والأخرى فى رابعة طب قتلتا من الاختناق بالغاز وحاولتا الجرى هروبا من الغاز ولم تتمكنا، وعندما حاول زميلنا د.عصام إنقاذهما تم قتله برصاص خرطوش ومات فى الحال فى محمد محمود. إنها مجزرة ولدينا الوثائق التى تؤكد أن ما حدث هو جريمة حرب بالفعل، لدينا قنابل منتهية الصلاحية من الثمانينيات والأعيرة والخراطيش. ولكن للأسف من شدة الأزمة والارتباك الذى عشناه تلك الأيام، لا نتمكن من التركيز إلا فى إنقاذ الأرواح التى تأتينا مختنقة ومتشنجة ومصابة، منهم من نتمكن من إنقاذهم ومنهم من يأتى فى حالة خطيرة ونحتسبهم جميعا عند الله شهداء». يقول لى الدكتور عمرو: أتعجب ممن يقول لى «مين دول اللى فى التحرير؟ دول عاوزين يعملوا فتنة فى البلد...» أجدنى غير قادر على المناقشة معهم وأكتفى بالقول «بالله عليكم انزلوا وشوفوا.. ربنا ينور بصيرتكم». يحكى لى «عندما سمع الكثيرون من الأطباء والذين كانوا فى نفس المستشفى فى أثناء ثورة يناير بدايات الأحداث صباح 19 نوفمبر، قاموا بالتواصل والاستعداد والنزول إلى نفس المكان وإعلان حالة الاستعداد بتجهيز مستشفى (عباد الرحمن) مرة أخرى. خلية نحل داخل ذلك المستشفى ومستشفى «عمر مكرم» والمستشفى داخل كنيسة قصر الدوبارة... كلما وقفت أشاهدهم عن قرب أو حتى عن بعد تمنيت أن أقبل رؤوسهم وأياديهم فردا فردا. إنهم الملائكة الذين وهبهم الله لمصر... إنهم الملائكة الذين يصنعون، والكثيرون معهم، حرية هذا الوطن». عرفتم يا مَن تسألون: مين دول اللى فى ميدان التحرير؟! لعلكم تعرفون أو تفهمون أو حتى تشعرون... أو على الأقل تصمتون!