عشت دائما أسمع وأقرأ قصائد وملاحم تتغزل فى الأمثال الشعبية وروعتها وتحكى عن الحكمة المقطرة الكامنة وراء كل مثل مما تركه لنا أجدادنا الحكماء، الذين خبروا الحياة وعركوها ثم تركوا لنا ميراثا سمعيا من الأمثال مستودع الحكمة، التى هى بمثابة مصابيح تنير لنا الطريق. غير أننى كلما أمعنت النظر فى معظم الأمثال التى تتردد بين العامة وجدت العجب العجاب حتى وصلت إلى نتيجة مخالفة تماما لما هو شائع، فأغلب ما تركه لنا الأجداد هو أمثال منحطة تخاصم الشهامة والكبرياء وتعلى من قيم النفاق والخنوع وتقبيل أحذية الأقوياء مثل المثل الشهير: «اللى يتجوز أمى أقول له يا عمى» أو: «لو وجدت القوم يعبدون العجل حش وأدى له». صحيح هى أمثال اتسمت بالواقعية لتساعد المقهورين من قبل المستعمر الأجنبى ورجاله المحليين على البقاء على قيد الحياة من خلال التمحور والتلون مثل الحرباء التى تستجيب للظروف الطبيعية فتتلون تبعا لها. لكن أمثلة أخرى لا صلة لها بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم وإنما تتصل بالعلاقات الاجتماعية بين الأفراد لم تخل أيضا من نفس الآفات والعلل، ومنها هذا المثل الذى يضحكنى بشدة كلما سمعته والقائل: «يا واخد القرد على ماله.. يروح المال ويفضل القرد على حاله»! المثل هنا يحذر الشخص الذى يضحى بالجمال وهو يختار شريك حياته، ويقبل أن يقترن بزوج قبيح مقابل الثراء الذى ينتظره، يحذره من أن المال الذى أغواه سوف يفنى حتما ثم يبقى له القرد كما هو. وقد يبدو للوهلة الأولى أن هذا المثل فضلا عما يدعيه من حكمة يغترف من نبع الأخلاق الكريمة التى تعلى من قيم الحب والمودة فى العلاقة الزوجية، لكن الحقيقة أنه مثل موغل فى الشر ولا يحفل إطلاقا بمثل هذه الأشياء، وكل الذى يشغل سيدنا الحكيم صاحب المثل هو أن الحسبة على الأغلب خاسرة لأن المال سيفنى وسيأخذ الأخ صابونة نابلسى فى النهاية. ومن الواضح أن من يرددون المثل وهم يظنون أنفسهم يحسنون قولا لم يدر ببالهم أن من يعتبرونه قردا ويجلسون للتآمر عليه، بعضهم ينصح بنبذه والابتعاد عنه، وبعضهم يسعى لنهب ماله، هو فى المقام الأول إنسان، له مشاعر وأحاسيس يتعين احترامها، وهو بالتأكيد لم يسع للزواج بالأكثر وسامة وجمالا، إذ قد يكفيه إنسان يكافئه فى الملامح ولا يراه قبيحا، يسعد معه فى زيجة متعادلة ليس فيها غالب ومغلوب، وهو لا يدرى وهو يجلس فى حاله أن القوم اتخذوه هدفا لأفكارهم وتنازعهم الشرير! فضلا عن شىء مهم غاب عن الأوباش الحكماء هو أن مال القرد قد يخيب ظنهم ويحقق المفاجأة فيزيد ويربو، وأن ثروته قد تنتعش وتتضاعف، وأن فناء المال ليس قدرا محتوما، بل ليس هناك ما يدعو لحدوثه من الأساس إذا ما أحسن من يسمونه قردا إدارة أعماله ومشروعاته وسهر عليها بجد واجتهاد.. فماذا يكون الموقف وقتها؟هل يقر الضمير الجمعى الذى رحب بالمثل وتسافل على شخص برىء، كما أظهر شماتة فى المغفل الذى حتما سيأخذ بمبة.. هل يقر بخطئه لأنه أساء تقدير إمكانات القرد الإدارية والتنظيمية؟ وهل يعتذر ويدعو صاحبنا إلى البقاء معه واتخاذه زوجا حقيقيا ما دام ماله ما زال موجودا، ومن ثم العمل على إسعاده وإحاطته بالرعاية والاهتمام بما يضمن اغتراف أكبر قدر من فلوسه التى لا تنفد، ثم يدعو الآخرين إلى احتذاء موقفه والبحث عن قرد ناصح لكل منهم ممن لا يفنى ماله ولا تضيع ثروته؟ صحيح.. أمثال غبية فضلا عن كونها واطية!