لن أذكر الآن إسم المكتبة ولا موقعها ليس لأننى أخاف على صاحبها من بطش النظام السورى المسعور، بل لأننى نسيت الإسم والموقع معا، لكنك لو أوصلتنى إلى مكان ما بعينه من قلب دمشق أو أطرافها يمكن أن أصل إلى المكتبة بسهولة!، يمكن أن أقول لك أن المكتبة كانت من دورين أو ربما ثلاثة، وأنها واحدة من أفضل المكتبات التى دخلتها فى حياتى إعتناءا بالكتب وترتيبها بحيث كان يتجلى عشق صاحبها للكتب فى كل ركن منها. برغم عشقى لإرتياد المكتبات خصوصا فى دمشق وبيروت، فإننى لم أدخل هذه المكتبة بالذات إلا طمعا فى تكييفها وهربا من قيظ الشمس التى كانت تعربد فى الخارج، لكننى بعد دقائق من دخولى إليها وتصفحى لواجهات دواليبها قررت أن أنقض العهد الذى كنت قد قطعته على نفسى بأننى سأكون حريصا فى شراء الكتب لكى لا أدفع ثمن ذلك ماديا وبدنيا عند عودتنا إلى القاهرة. داخل المكتبة كان يجلس ضابط شرطة كبير السن شرس الملامح ضخم البنيان يحمل جهاز لاسلكى ويعلق على كتفيه رتبة فهمت أنها كبيرة من تزلف الجميع له، كانت المشروبات و«البزورات» تنهال عليه فيما كان يمسح عرقه المتصبب بغزارة وهو يسب ويلعن فى المواطنين الذين لا يحترمون القانون ولا يمشون إلا بضرب الصرمايات، فجأة توقف عن السباب عندما بدأ التلفزيون يذيع على الهواء وقائع جلسة لمجلس النواب السورى يخطب فيها الرئيس القائد بشار الأسد، أخذ هو ومن بدا أنه صاحب المكتبة وعمالها يتابعون الكلام الفارغ الذى يقوله بشار بخشوع لم تكن تقطعه سوى الأصوات المنبعثة من اللاسلكى، فى أقل من ساعة كنت قد اخترت مجموعة رائعة من الروايات المترجمة وكتب السينما الصادرة عن المؤسسة السورية للسينما، كانت الحمولة ثقيلة لكن سعرها الزهيد مقارنة بأسعار الكتب فى القاهرة حسم ترددى فى شرائها، قررت أن أخزى شيطانى وأتجنب الصعود إلى الدور العلوى ولو حتى لتصفح كتبه وقضاء وقت أطول فى التكييف، لكن بائعا ذكيا قال لى بلطف «عندى فوق مجموعة بتعجبك من إصدارات المؤسسة القديمة». وأنا أصعد معه إلى الأعلى وبينما يسألنى عن الفرق بين حر دمشق وحر القاهرة، لمحت نظرات مريبة تبادلها معه صاحب المكتبة لم أفهم سرها إلا بعد حوالى ساعة من تصفح الكتب محاولا الإستعاضة عن لذة شرائها بتحسسها بإشتهاء، بعد أن راقبنى مطولا ذهب ووقف على حافة إفريز خشبى يطل على أرضية المكتبة وأخذ ينظر مليا إلى الأسفل، ثم هز رأسه بشكل يوحى أنه تلقى إشارة ما، إقترب منى أكثر من اللازم، وهمس فى أذنى «عم أقول يا أخى.. بدك كتب ممنوعة؟»، فى بلد أخرى كنت سأجيب «طبعا»، لكن صوت جهاز اللاسلكى الخاص بالضابط والمتداخل مع صوت رطانة القائد الذى يعشق الخطابات الطويلة جعلنى ألتزم الحذر وأجيب «مش فاهم تقصد إيه؟»، وهو اعتبر الإجابة نوعا من التمنع الراغب فابتسم وقال لى هامسا «عندى كل الكتب الممنوعة اللى ما تخطر على بالك.. كتب جنسية وكتب إخوانجية وحتى كتب إلحادية إذا بدك»، ضحكت وقلت «طب مافيش كتب جنسية وإخوانجية فى نفس الوقت»، أشار إلى أن أخفض صوتى مشيرا إلى الأسفل ليذكرنى بالضابط قبل أن يهمس مجددا «وعندى كتب سياسية خطيرة إذا بتريد»، اعتبر أن ملامح الإثارة التى ملأت وجهى بمثابة إجابة موافقة فأشار إلى أن أتبعه، وهو ينظر إلى الأسفل نظرات حذر بدت غير لازمة فقد كنا نقف فى عمق الدور العلوى بحيث لا نبدو مرئيين لمن يقف فى الأسفل، وصل إلى ركن خشبى تغطيه لوحة رأسية كبيرة، قام بتحريكها لينفتح باب سحرى لغرفة بالغة الصغر تملؤها دواليب مكتظة بالكتب، قام بجذب حبل فأنار لمبة قوية أضاءت المكان، طلب منى أن أتبعه ولم يقم بإغلاق الباب علينا، كنت سأرفض لو حاول، ليس لعدم ثقتى فى أخلاقه، بل لأن المكان كان سيكون عصيا على التنفس، كان محقا فيما قاله، لم يكن هناك كتاب ممنوع سمعت عنه بالعربية أو الإنجليزية إلا وكان موجودا بالداخل، رآنى وأنا أنظر إلى عناوين الكتب منبهرا، فأراد أن يعزز إنبهارى ليشير إلى رف تملؤه كتب تهاجم حافظ الأسد وإبنه والطائفة العلوية وحزب البعث وتتحدث عن وقائع مجزرة حماة الشهيرة وفظائع المعتقلات والسجون السورية. رأيت بين الكتب كتابا لم أره منذ أن كنت فى السابعة من عمرى، كانت قد أصدرته دار الإعتصام عن مجزرة حماة وكان يعلقه بائع كتب إسلامية على واجهة مكتبته القريبة من بيتنا فى الإسكندرية، كنت لا أزال أتذكر غلافه الذى رسمه الفنان سيد عبد الفتاح الذى كان يرسم أغلفة كتب الإخوان بنفس البراعة التى كان يرسم بها صور مبارك، كان الأسد الأب يدوس فى الغلاف على عدد كبير من الجماجم البشرية حاملا فى يده جمجمة مليئة بالدماء التى كانت تسيل أيضا من فمه الذى كان يشبه فم مصاص الدماء، ذكرنى الغلاف بشريط كاسيت أحضره أيامها أحد أخوالى إلى البيت كان يخطب فيه داعية كويتى أظن أنه الشيخ أحمد القطان، كان يتحدث عن مجازر الأسد فى مخيم تل الزعتر قبل أن يقرأ رسالة من الأخوات المسلمات المعتقلات فى سجن المَزّة، لازلت أذكر يومها كيف كان الشيخ يبكى فنبكى جميعا وهو يقرأ مقطعا تصف فيه الأخوات كيف تحاول إحداهن إجهاض نفسها للتخلص من الجنين الذى حملت به بعد أن اغتصبها الحرس، لم يوافق أحد على أن يشرح لى معنى الإجهاض، كما لم يتعاطف احد مع تعجبى كيف يرتبط القتل والتعذيب بأشياء لذيذة مثل أطباق المَزّة والزعتر الذى كنت أعشق سندوتشاته التى يقطر منها زيت الزيتون والتى كانت تعدها والدة صديق دراستى السورى الذى هرب أبوه من بطش حافظ الأسد، ورغم أن الأب مات غريبا عن سوريا إلا أن إبنه صديق طفولتى لازال يعيش حتى الآن لاجئا فى أوروبا. كل هذه التداعيات أخرجنى منها صوت تصفيق حاد ينبعث من شاشة التلفزيون فى الدور الأسفل أعقبه صوت الضابط وهو يصيح «الله مِحَيّى قائدنا»، قبل أن يجامله صاحب المكتبة والعاملون بترديد هتافه، فى نفس الوقت الذى كانت يد بائع الكتب تمتد لى بكتاب إسرائيلى مترجم عن جمهوركية آل الأسد، قائلا لى بفخر أن ضبط هذا الكتاب مع أحد داخل سوريا يمكن أن يذهب بحامله إلى حبل المشنقة، لكنه سيعطيه لى هدية لأنه معجب بذوقى فى إقتناء الكتب.