كان عمر بن الخطاب بن عدى مدركا للبعد البشرى، مدركا له ببساطة وصدق مع النفس، يفتقد إليه المتنطعون الأدعياء، فتمنى إن ولى عثمان أن لا «يحملن بنى أبى معيط (أقاربه) على رقاب الناس». عمر نفسه ولَّى أبناء المستضعفين، ولى عمارا بن ياسر وعبد الله بن مسعود وعتبة بن غزوان وأبا موسى الأشعرى. لم تكن له مصالح تكسر عينه أمام ذوى الحظوة. على العكس، قيّد، عمليا، حركة «الأشراف» والوجهاء من الصحابة، فمنعهم من الهجرة إلى أراضى العطايا (التعبير الذى كان يستخدم للإشارة إلى البلاد التى فتحت). منعهم من ذلك خشية تتكون مراكز قوى تضعف السلطة المركزية فى الدولة الناشئة. لو فكر عمر بن الخطاب سياسيا كما يفكر إسلامجيو هذه الأيام لقال إن هؤلاء الصحابة ذوو الفضل، ولا يمكن أن يقترفوا ما يضر الدولة ولأخطأ خطأ عظيما. ولأن عمر كان «فاهم مش حافظ»، فقد نجح فى ما فشل فيه خلفاه ذوا الفضل، عثمان وعلى. عثمان ولى بعضا من بنى أمية وسمح لوجهاء الصحابة بالاستقرار فى البلدان المفتوحة. لم يكن أقاربه هؤلاء قليلى الكفاءة. بالعكس، بنو أمية كانوا بتعبير أيامنا هذه «المتعلمين جيدا» من أبناء قريش. تنقلاتهم التجارية قبل الإسلام وبعده سمحت لهم بالاطلاع على نظم الحكم والإدارة والتجارة فى الإمبراطورية الرومانية، وأكسبت شخصياتهم انفتاحا ومعرفة افتقدها كثير من أهل الجزيرة العربية. إنجازاتهم فى البلاد التى تولوا أمرها تشهد لهم بذلك. فكانت قدراتهم المدنية قرين قدرات بنى مخزوم -قوم خالد بن الوليد وعكرمة بن أبى جهل- فى الحربية والفروسية. لكن تلك التعيينات أثارت حفيظة أهل القبائل الأخرى على عثمان. فانضموا إلى صفوف التمرد الذى قاده الهاشمى على بن أبى طالب. وتحالف مع على فى حصاره بيتَ الخليفة رجلان من مراكز القوى الجديدة التى نشأت فى بلاد العطايا، طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام. ثم قُتِل عثمان. وتولى البيت الهاشمى الأمر فى حال مضطرب. وظهرت دعاوى سياسية تدعو إلى جعل الخلافة فى البيت الهاشمى فرضا دينيا. حتى حليفا الأمس، طلحة والزبير (وهما من العشرة المبشرين بالجنة، ومن الستة الذين سماهم عمر لاختيار خليفة)، انقلبا على على. هل يسأل مقدسو التاريخ الإسلامى أنفسهم هذا السؤال: لماذا كان طلحة والزبير حليفين لعلى فى حصار بيت عثمان، ثم صارا بعد مقتل عثمان عدويه، ولم يحسم الخلاف إلا عسكريا بانتصار على فى موقعة الجمل؟ بل لماذا أيدت أم المؤمنين عائشة إجبار عثمان على التنحى، ثم صارت فى صفوف المعارضين لعلى بعد مقتل عثمان؟ لم يكن حال على فى الحكم أفضل كثيرا من حال عثمان. قائد جيشه مالك بن الأشتر جاهر أيضا بمعارضته فى توليته أقاربه من بنى العباس: «فيم قتلنا الشيخ إذن؟ عبد الله على البصرة وعبيد الله على اليمن وقثم على مكة!». وكل هؤلاء أبناء عم على. فضل على لا ينكره أحد (ولا فضل عثمان ولا طلحة ولا الزبير ولا عائشة)، لكنها السياسة، حساباتها مختلفة تماما عن حسابات الأحكام الشخصية على الناس. هل ثمة علاقة بين أن تكون إنسانا جيدا وأن تكون طبيبا جيدا أو سباكا جيدا؟ لا. الأمر نفسه ينطبق على السياسة. هذا الداعية الإسلامى، أو رجل الدين المسيحى، أو رجل الخير ذو الأعمال الخيرية، ليس بالضرورة سياسيا جيدا. السياسة مهنة مستقلة بذاتها، تستلزم معرفة مستقلة بذاتها. الإسلامجيون المصريون صنعوا من التاريخ الإسلامى أسطورة، بل إحدى الأساطير المؤسسة للحركة الإسلامية المعاصرة. من أجل هذا/ أعود إليه. لأننى لن أستطيع أن أخبركم عن المستقبل إلا من باب التنبؤ، لكننى أحاول أن أقدم رؤية نقدية لتفسيرهم للماضى. الإسلامجيون المصريون يعدوننا بدولة تشبه دولة الخلفاء الراشدين. وأنا أقول لكم أولا إنهم ليسوا كالصحابة مقاما، وثانيا إن مقام الصحابة لم يضمن إنشاء دولة مستقرة. لقد ازدهرت الدولة وتراجعت بناء على اجتهاداتهم السياسية، من أصاب فيها، كأبى بكر وعمر، دفع الدولة إلى الأمام، ومن لم يصب تسبب فى اضطراب الدولة. معيار بشرى خالص! اليوم، فى الزمن الذى نعيش فيه، تطور علم السياسة كما تطورت التكنولوجيا والفلك والطب ووسائل النقل.. وباقى الجملة أنتم أدرى به.