عندما دخل الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلّم، مكة بعد فتحها، ووقف سادتها أذلاء أمامه، لم يكن هناك من يمكن أن يلومه، لو أنه نكّل بهم أو أعدمهم أجمعين، وهم الذين أذلوا قومه وعذّبوهم، وأجبروهم على الخروج من ديارهم، ودفعوه بالإيذاء المتكرر إلى الهجرة، ولكنه صلوات الله وسلامه عليه، رأى بحكمته وبُعد بصيرته، أن هذا لا يتفق مع الدعوة لدين الله عز وجل، بل سيدفع باقى القبائل إلى الخوف والتآزر ضد المسلمين، كما سيوقر فى نفوس الكل أن الإسلام عقيدة دموية لا تعرف الرحمة أو التسامح، لذا فقد أطلق سراحهم فى مشهد جليل جعل الناس يدخلون فى دين الله أفواجا. ولقد انبهر نيلسون مانديلا بالواقعة فى شبابه، واستعادها وهو رئيس لبلاده، وقرر أن يجعل منها أسوة له فى المرحلة التى تلت الثورة، وكان له فى هذا رأى يتسم بالعقل والحكمة وبُعد النظر؛ فلو أنه بدأ بمطاردة الفاسدين فى كل مجال فستخوض بلاده حربا لا مجال لخوضها وهى أحوج ما تكون إلى البناء. ثم إن الفاسدين كانوا يحتلون معظم الأماكن قبل الثورة وأعدادهم بالملايين، وعندما تُشن الحرب عليهم دفعة واحدة فإن هذا سيدفعهم إلى التآزر فى مواجهة والتعاون على إسقاط وإفشال الثورة.. باختصار، سيدفعهم دفعا إلى التخطيط فى استماتة لثورة مضادة، حفاظا على حياتهم وحريتهم، مما قد يهدد نجاح الثورة أو يعرّضها للفشل، مع سيل من الشائعات يستغل اندفاع الجماهير وانفعالها وحماستها، فيقودهم إلى ما يفصلهم عن الشارع وعن الأهداف الرئيسية للثورة، أما لو استخدم سياسة التقريب، أى ضمهم إلى الثورة وتأمينهم منها، فسيدفعهم هذا إلى السعى إليها، لا إلى محاربتها، فيأمن شرهم من جانب، ويفيد من طاقاتهم وخبراتهم من جانب آخر؛ للنهوض وتحقيق الغرض الرئيسى لأى ثورة، وهو إقامة نظام جديد قوى مبنى على العدل والحرية والديمقراطية. وعلى الرغم من ثقتى، فى اختلاف كثيرين من الثوار مع الفكرة، وربما استنكارها فى عنف أيضا، فإن نتيجتها واضحة وقريبة، ويمكن الرجوع إليها فى بساطة، مع النهضة المدهشة التى شهدتها جنوب إفريقيا فى عهد نيلسون مانديلا خلال سنوات قليلة من الثورة. المشكلة الحقيقية تكمن فى أن معظم الناس، على الرغم من تشبثهم بالمظاهر الخارجية للدين التى تم التركيز عليها وحدها فى العقود الأخيرة، ليسوا من الكاظمين الغيظ، ولا العافين عن الناس، ولكنهم من الغاضبين المشتعلين، الذين يريدون شفاء غليلهم اليوم، ولا يهم ماذا يحدث غدا، وهذا ما أخبرنا به التاريخ عن الثورات الفاشلة.. وما زال للحديث ختام.