المؤسسة العسكرية المصرية قدمت تضحيات كبيرة، مجندين من أبناء الشعب ضحوا بمستقبلهم المدنى وضباطا أدوا واجبهم وقدموا أرواحهم من أجل بلدهم. لكن حظ مؤسستنا العسكرية من الإنجازات الميدانية قليل. هزمنا فى حرب 48 بسبب الإدارة السياسية، وهزمنا عسكريا فى حرب 56 (وإن كسبنا سياسيا لعوامل دولية ليس مجالها الآن)، خسرنا فى حرب اليمن على كل المستويات، هزمنا فى حرب 67 هزيمة منكرة لا مثيل لها فى التاريخ الحديث. ثم، فى حرب 73، حققنا فى بداية الحرب إنجازا لا بأس به. هذه هى الحصيلة الحقيقية، راجع كتب التاريخ، اقرأ ما كتبه الآخرون، بلا تنميق ولا تزويق. ما سوى ذلك كلام أغانٍ وأحاديث مقاهٍ على عشرة طاولة. ما سوى ذلك أسطورة، فى الواقع إحدى «الأساطير المؤسسة للدولة المصرية الحديثة». يروج لها التليفزيون المصرى الذى لا يفوقه فى الكذب إلا التليفزيون الكورى الشمالى، ويروج لها صحفيو وكتاب جيل الفشل. وأبرزهم الكاتب الذى ادعى أنه يكتب فى كبريات الصحف البريطانية ويدفع له بالكلمة. وقد عشت فى بريطانيا 12 سنة لم أقرأ له كلمة واحدة فى أى من صحفها، وسألت عنه من أعرفه من الصحفيين، فلم يعرفه منهم إلا المهتمون مباشرة بالتاريخ المصرى الحديث، يعرفونه ككاتب السلطة فى عهد ناصر لا كصحفى كفء (وربما استكتبوه فى السابق من هذا الباب، كما يستكتبون غيره الآن). فمعيار الكفاءة فى بلاد الصحافة المحترمة ليس أن تروج لرواية السلطة، بل أن تتحداها وتكشف للناس الحقيقة، كما فعل ويفعل بوب وودوارد وغيره من الصحفيين الرائعين فى بلاد الصحافة الحرة. أما الصحفيون الذين يلمزون السلطة فى المزايا، فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا سخطوا، فلهم صفة أخرى مستحقة لا علاقة لها بالكبير ولا المتميز ولا كل هذه الأوصاف التى ينالها المفبركون فى حياتنا التى يحكم الزيف مجالها العام. هؤلاء، للأسف، هم المروجون الرئيسيون لأسطورة انفراد المؤسسة العسكرية بالقدرة على إدارة شؤون البلاد. هذه الأسطورة المؤسسة للدولة المصرية الراهنة، تحاط كما كل الأساطير المقدسة بسياج من التحريم والتخويف والترهيب لمن يقترب منها أو يحاول تحديها. فكونها أسطورة يعنى أولا أنها مخالفة للمنطق وللحقيقة التاريخية، لكنه يعنى ثانيا، وهذا هو المهم، أن لها وظيفة اجتماعية وسياسية قوية مرتبطة بسلطة آنية. هذا هو بيت القصيد. مصر محكومة منذ 1952 بعسكريين يرتدون بذلات مدنية، لم ينتخبوا، لم يسمحوا بقيام أحزاب لديها رؤية أخرى، فجروا الحياة السياسية، احتكروا الإعلام وكمموا المخالفين، تردت تحت سلطتهم أحوال البلاد الاقتصادية والاجتماعية إلى حد سكنى المقابر والانكفاء تحت خط الفقر، تردى التعليم، تردت الأخلاق وانتشرت الرشوة وعم الفساد. لكنهم لا يزالون يدعون أنهم الأقدر على الحكم والأحق به. كيف؟ لم يبق إلا الميدان العسكرى ندعى أننا سادته (على عكس الحقائق التاريخية) لكى نستخدمه مبررا لتسليم السلطة المدنية إلى عسكريين مرة بعد مرة. ولا بأس من استخدام الدين أيضا، بأحاديث ضعيفة لم تثبت مثل «مصر كنانة الله فى أرضه...» و«... فإنهم خير أجناد الأرض»، لم تثبت شرعيا، ولم تثبت تاريخيا أيضا. هذا بلد احتله تقريبا كل غزاته منذ أربعة آلاف سنة إلى اليوم، وحكمه أجانب طوال هذه الفترة حتى 1952. آه، ليس هذا تيئيسا ولا نشرا للإحباط. إنما دعوة لبدء خطوات تشخيص حقيقى بدلا من العيش فى الوهم. ليس الفرد المصرى أقل من غيره جنديا ولا عالما ولا مهنيا (وليس أفضل من غيره أيضا)، ولا المؤسسة العسكرية أقل من غيرها. إنما يصلحها ما يصلح غيرها ويفسدها ما يفسد غيرها. وما يصلح غيرها هو المهنية والابتعاد عن إدارة الشأن المدنى، وما يفسدها هو أسطورة تفوق المؤسسة العسكرية المصرية التى تستخدم ذريعة لتغلغلها فى الشأن المدنى، فقد أثرت سلبا على المؤسسة وعلى الحياة المدنية كليهما. الجمع بين قوة السلاح ونفوذ السلطة القضائية العسكرية، والنفوذ الاقتصادى، وفوق ذلك كله السلطة التنفيذية لا يصح. لا يصح فى أى دولة حديثة أن تجمع مؤسسة واحدة بين كل هذا. أقول قولى هذا ورزقى ورزقك على الله!