الحروب الحقيقية تشبه أفلام السينما فى أشياء كثيرة، أهمها أن لكل حرب سيناريو متقنا يتم إخراجه بمهارة حتى تتورط فيها الشعوب. فالحاكم المستبد الذى يسعى لتوسيع ملكه أو التخلص من بعض معارضيه السياسيين، لا يقول لأفراد الشعب: من فضلكم سوف أسُوقكم كالنعاج إلى ساحات الحروب، لتفقدوا أرواحكم أو بعض أعضائكم، حتى أحصل على مزيد من الذهب أو السطوة أو النفوذ. وأنظمة الدول التى تتعرض للكساد الاقتصادى أو تحلم بالسيطرة على ثروات دول أخرى، لا تقول لمواطنيها: سندفع بكم إلى الحروب لكى ننشط اقتصادنا، أو لكى يحصل كبار مستثمرينا على أسواق جديدة ومشاريع إعمار ضخمة فى البلدان التى دمرناها. وبالمثل فإن الممالك التى تخشى انتفاضات شعوبها، وترتعد من اليوم الذى يطالب فيه أفرادها بحقوقهم، ويخلعون قيد العبودية الرقيق، هذه الممالك لا تقول ببساطة: أيها الشعب الذى أخشى أن يفيق سوف أدفع بك نحو حرب تجعلك تتشبث بحاكمك المستبد، سأصنع لك عدوا موهوما، وأشحنك بكراهيته، حتى تنسى أن عدوك الحقيقى هو من يقبض على عنق بلادك، ويحول الأوطان إلى ملكيات خاصة، ويحول الشعوب إلى عبيد. ليس هذا هو ما يُقال لكى تظل سوق الحروب عامرة. إذ عادة ما تكون الأسباب الحقيقية للحروب مخفية بعمق تحت ركام هائل من الغايات النبيلة والأهداف السامية. فتحت ستار تَمْدين الأمم البدائية أو نشر الديمقراطية أو الحرية، أو الدفاع عن الدين، أو التصدى للمؤامرات الخارجية، يتم حشد خيرة شباب البلاد ليموتوا غرباء فى أرض غريبة. لقد تطور فن كتابة سيناريو الحروب كثيرا فى العقود الأخيرة. وأصبح يتم تنفيذه بواسطة آلة دعائية بالغة التنوع والتعقيد والضخامة. فما إن يستقر أمراء الحروب على هدف غزوتهم أو ضربتهم التالية، حتى يبدأ سيناريو التلاعب بعقول الجماهير، فى الصحف والتليفزيونات وصفحات الإنترنت والبحوث الأكاديمية وأفلام الكرتون ولافتات الشوارع.. إلى آخره. لعلنا جميعا نتذكر جيدا واحدا من هذه السيناريوهات التى مهدت الأرض لغزو دولة شقيقة، وقتل أكثر من نصف مليون عربى منذ أقل من عشر سنوات. لقد أعلنت المخابرات الأمريكية أنها كشفت أن العراق- الذى طحنته ثلاثة عشر عاما من الحصار والقصف والتجويع- يهدد السلام الدولى، والمجتمع البشرى بامتلاكه أسلحة دمار شامل. وتحت ستار من أكاذيب المخابرات وألاعيبها، دُمِّر العراق، وفقد العرب واحدا من أهم مصادر قوتهم الاستراتيجية. وحين انتهت الحرب، واتضحت أكذوبة سيناريو أسلحة الدمار الشامل، صمت العالم كأن شيئا لم يحدث. ويبدو أن هذا الصمت كان حافزا على إنتاج سيناريوهات حروب جديدة فى المنطقة، يمكن أن يكون سيناريو المؤامرة الإيرانية المزعومة لقتل السفير السعودى فى الأممالمتحدة واحدا منها. وهى المؤامرة التى «كشفتها» المخابرات الأمريكية أيضا. فى نظرية المؤامرة عادة ما يكون اللوم موجها نحو المتآمِر، وليس المتآمَر عليه. فإسرائيل أو أمريكا «لا تريد لنا أن نتقدم»، و«تتآمر لاستنزاف قوتنا والسيطرة على ثرواتنا»، و«تدبر لنا المصائب»، إلى آخره من الاتهامات. وهى اتهامات حقيقية تماما، وهناك عادة كثير من البراهين عليها. لكن هذا ليس هو مربط الفرس. فمن الطبيعى أن لا يريد لى عدوى القوة والتقدم، وأن يسعى بأقصى طاقته كى يضعفنى ويمزقنى إن استطاع. لكن المشكلة ليست فى عدوى، المشكلة فىّ أنا، لأننى أتيح له فرص تحقيق أهدافه بل أساعده عليها. إن من يستحق الإدانة ليست الدول التى تدبر المؤامرات للشعوب، بل الشعوب التى تنطلى عليها هذه المؤامرات وتستسلم لها. يرجعنا هذا إلى السؤال الأهم: من المستفيد من سيناريو الحروب ومؤامراتها؟ من الذى يتشوق لإشعال حرب جديدة، يُساق فيها الألوف مرة أخرى نحو التهلكة، وتُراق فيها مقدرات الشعوب وثرواتها. إذا أردت أن تعرف الإجابة ففتش عن مصالح الحاكم الذى يخشى ثورة شعب يتجرع القهر والذل، ولا يملك من أمر وطنه شيئا، ويورَّث من ملك إلى ملك كما تورَّث البهائم. ثم فتش عن مصالح الدولة العظمى التى تنتفخ جيوب أثريائها ورأسمالييها، كلما أفلحت فى إشعال فتيل حرب جديدة. ثم فتش عن كل منْ يتحالف معهم، ويأكل على موائدهم. لن تتوقف سيناريوهات دفع العرب والمسلمين إلى ساحات الحروب لكى يتمتع رؤساؤهم وملوكهم بمزيد من الثروة أو السيطرة، ويحقق أعداؤهم حلمهم بأن يتحول العرب إلى أمم مطحونة واهية. وكل سيناريو ردىء سوف يتبعه سيناريو جديد أشد إحكاما وفاعلية. وكل حيلة تنكشف ستتلوها حيلة أخرى أشد خبثا ومكرا. ولا نجاة لأحد من المصير التعس الذى يُجرّ بعض العرب إليه إلا بتعرية المستفيدين من سيناريوهات الحروب، وفضح وكلاء الدمار، الذين يدقون طبول الحرب ثم يختفون فى أعمق أعماق الخنادق والسراديب.