لم أقرأ فى حياتى عملا أدبيا أروع من رواية ساحر الصحراء (أو الكيميائى) للروائى العالمى باولو كويلهو (ترجمت إلى 76 لغة وطبع منها 65 مليون نسخة فى 150 دولة، ودخلت موسوعة «جينيس» لأكثر كتاب مترجم لمؤلف على قيد الحياة، وأكثر الروايات مبيعا فى التاريخ)، وهى باختصار شديد -لمن لم يقرأها- تصور قصة راعى غنم إسبانى يدعى سانتياجو أراد له والده أن يدرس الكتاب المقدس وأن يكون معلما دينيا، ولكن سانتياجو كان يراوده حلم تكرر أكثر من مرة تدور أحداثه حول كنز مدفون فى الأهرامات بمصر. وبسبب هذا الحلم باع الراعى أغنامه وخالف رغبة أبيه وعبر مضيق جبل طارق إلى المغرب العربى متوجها نحو مصر، وقابل فى رحلته السرقة والغدر والخداع والإثارة والفرص والذل والحظ والحب والإخلاص والأسرار والتهديد والنجاة، وفى خلال الرحلة اكتشف سر الكون وروح الكون، وعرف أن التجوال والتأمل فى الكتاب المنظور (الكون) ربما يفوق القراءة فى الكتاب المسطور (حتى ولو كان مقدسا). وإضافة إلى قضية الكتاب المنظور والكتاب المسطور، تناقش الرواية مفهومين أساسيين فى الحياة، وهما الأسطورة الشخصية، والاستقرار والترحال. استطردنا فى هذه المقدمة لنناقش إشكالية فى حياتنا المعاصرة تتصل برؤيتنا للدين والتدين وتعاملنا مع الآخر ومع الحياة من هذا المنظور، ونبدأ باستعراض بعض الملاحظات والإشكاليات: يشكل الدين الرافد الأهم للمعرفة والوجدان والسلوك فى المجتمعات العربية والإسلامية، مما يجعل أى مشروع للنهضة أو الإصلاح يمر عبر هذا الرافد الأهم. على الرغم من اتساع رقعة التدين فى الخريطة المجتمعية العربية فإن هذا التدين يميل فى أغلبه إلى الشكل التقليدى المنغلق والمتعلق بالمظاهر الخارجية للدين، بعيدا عن روحه ومقاصده ومعناه العميق، وأن ثمة أشكالا من التدين الناقص أو المشوه تسود بشكل لافت للنظر. انشغال الدعاة إلى الدين بمسألة إعادة الناس إلى دينهم الذى كان عليه السلف، دون اعتبار لعوامل الزمان والمكان ودون النظر إلى رسالة الدين العالمية التى تهتم بإشاعة الرحمة والحب والسلام بين البشر وتنشر الخير فى ربوع العالم، بعيدا عن التعصب أو التحيز. تغيب عن كثير من المتدينين النظرة الشاملة والحضارية للدين. هناك ضعف واضح فى التربية الروحية لدى المتدينين ولدى الناس بوجه عام، مما يجعل العلاقات تتسم بالخشونة والجفاء والتصلب والميل إلى الصراع والمواجهة باسم الدين. تغلب على التيارات الدينية روح التوجس والخوف من الآخر والشعور بالخطر واعتبار أن أصحاب كل دين فى صراع وجودى مع أصحاب الديانات الأخرى. وفى هذا الجو تنشط نظرية المؤامرة على الدين وتظهر مشاعر الاضطهاد والمظلومية، وتتوجه قوى الشباب نحو صد العدوان، بدلا من أن تتوجه لبناء منظومات حضارية. أغلب المدارس الفقهية والتيارات الدينية والحركات الإصلاحية نشأت فى القرون الماضية واعتمدت أبجديات الحياة فى تلك الأوقات، وآخر الحركات الإصلاحية (سواء فى الإسلام أو المسيحية) كان فى القرن التاسع عشر أو بدايات القرن العشرين، وقد تغير الوضع الآن مع سهولة الحركة والاتصال والتواصل فى جميع أرجاء العالم، وتغيرت مفاهيم كثيرة وتداخلت وتفاعلت واندمجت الثقافات، وأصبح التعايش قيمة تقدم على الصراعات، وأصبح الانفتاح على الآخر قيمة تقدم على الانعزال والتقوقع، ومن هنا أصبح من الصعب أن تبحث عن الكنز المعاصر بخرائط قديمة. وبناء على ما سبق نفهم تلك الروح الطائفية التى تسود مجتمعنا فى العقود الأخيرة، حيث اتجهت العقول والقلوب إلى حالة الصراع، وابتعدت عن الإسهام فى البعث الحضارى للمجتمع. ولهذا يتوجب على كل صاحب رأى وفكر، وكل صاحب رؤية وتجربة تربوية أن يسهم فى تغيير خرائط التفكير فى العقل العربى بما يتناسب والظروف الجديدة التى يعيشها العالم اليوم وأن يوقظ الغارقين فى أحلام الماضى، وأن نبدأ فى إنشاء مؤسسات وبرامج تربوية تقوم على منهج متماسك ومتناسق ومرن ومتفاعل فى ذات الوقت. مؤسسات وبرامج لا تخضع لضيقى الأفق أو مؤججى الصراع أو مثيرى الفتن، بل تخضع لرؤى وتصورات علماء نفس وتربية ودين يتصفون برجاحة العقل وسماحة النفس وشمولية الرؤية وسمو الروح. ولنسم تلك المؤسسات «معاهد إعداد الحياة»، ويكون هدفها بناء شخصية متوازنة من الجانب الفكرى والوجدانى والاجتماعى والعلمى والروحى، شخصية تدرك فقه الأولويات والمقاصد والمساحات النسبية للحلال والحرام والمباح، شخصية تتبنى القيم الأخلاقية الرفيعة فى دوائر حركتها، شخصية تجيد قراءة الكتاب المنظور كما تجيد قراءة الكتاب المسطور، شخصية تصنع الحياة وترعاها وتطورها سعيا لوجه الله الكريم.