الثورات الناجحة، كما رواها لنا التاريخ، هى تلك التى بدأت برؤية واضحة، وأيديولوجية ممكنة، وسارت على نهج سليم، حتى حقّقت أهدافها وتطلعاتها إلى المستقبل، على نحو معروف ومدروس، وعقلانى وواقعى.. وهناك ثورات قيل إنها ناجحة، لكنها لم تتبع هذه القواعد، لذا فلم تنته إلى مستقبل مشرق، كالذى انتهت إليه الثورات التى اتبعت القواعد، أما سبب اعتبارها ناجحة، فهو قد نجحت فى القضاء على النظام الذى سبقها، لكن التاريخ نفسه يخبرنا أنها، وعندما لم تتبع القواعد، مالت بمسارها، وانحرفت عنه، وحتى عن الأهداف التى قامت من أجلها، ولم تسفر، مع مرور الوقت، إلا عن نظم أكثر قمعا وديكتاتورية، من النظم التى ثارت عليها، وأكبر مثال على هذا هو الثورة الروسية، التى اندلعت لإسقاط نظام أسرة رومانوف القاسى، فأتت بقمع وديكتاتورية النظام البلشيفى، الذى تمنى الشعب معه لو عاد حكم رومانوف، تماما كما جاء زمن على مصر، تمنى فيه المصريون عودة ملكية أسرة محمد على إليها، بعد أن انحرفت حركة يوليو عن مسارها، وطغى رجالها وتجبّروا.. فن الثورة إذن لا يكمن فى إسقاط نظام قائم، مهما بلغت قوته، فصحيح أن هذا يعد نصرا ساحقا، إلا أنه وفى غياب رؤية موضوعية، يصير مجرد خطوة، قد تؤدى بالبلاد إلى فوضى عارمة، أو ديكتاتورية قمعية جديدة، يتمنى معها الكثيرون عودة النظام السابق.. الفن يكمن فى إدارة الأمور بعد الثورة، ولكى تتعلّم هذا، ادرس ما فعله نيلسون مانديلا، فى جنوب إفريقيا، فالرجل سجن، وعذّب، وقضى شبابه كله لا يرى الشمس، وعانى مع شعبه أمرّ الأمرين، من القهر والظلم والقسوة والاستعباد، وعلى الرغم من هذا، فما إن صار حرا، وآل إليه أمر بلاده، حتى تحول إلى زعيم حقيقى، من أعظم زعماء القرن، وانطبقت عليه بحق تلك المقولة العظيمة القديمة «من ذاق الظلم، يعرف معنى العدل».. فالرجل لم يخرج بنقمة وغل وغضب، على من سجنوه وظلموه وعذبوه طويلا، وإنما خرج بعقل وحكمة، وبرغبة فى علو شأن بلاده، وليس فى الانتقام والتشفى، ومن أجل بلاده، أراد أن يقيم دولة العدل، ليمحو بها مرارة الظلم، وهو يعلم أن هذا ليس بالأمر السهل، فالسود الذين عانوا وقاسوا طويلا، من قسوة وظلم البيض، لن يهنأ لهم بال، وهم يرون البيض يسيرون فى مجتمعهم آمنين، بعد أن عاد حكم بلادهم لأبنائها السود، لذا فقد كان همّ مانديلا الأول، هو إزالة هذه الحالة من النفوس، والعجيب أن مرجعه فى هذا كان رسولنا الكريم، صلوات الله وسلامه عليه.. وللحديث بقية.