الرسائل تصل المجلس العسكرى متأخرة. والشعب المذعور يتنتظر مؤامرة. سيعود مبارك. سيحكمنا السلفيون. الجيش سيدفع برئيس عسكرى فى بدلة مدنية. الذعر هو سيد الحياة السياسية، الفلول، وأحمد شفيق، البلطجية، وعمر سليمان و.. إلى آخر هذه العفاريت التى يتصور المذعورون أنهم سيقتلون الثورة ويمشون فى جنازة الثوار. الذعر يمنع التفكير.. الهواجس تحل محل الأفكار، فالعقل السياسى ما زال فى مرحلة طفولته، ولم تتخلص الغالبية بعد من سطوة الفكرة المستبدة: السياسة قدر. «الشعب خلاص.. أسقط النظام»، لكن هناك من ينتظر أن يسقط النظام الجديد من أعلى، كما كان يحدث عندما تصنع التحولات السياسية فى مكتب الرئيس ومطابخه، التحولات كلها تمت بعيدا عن إرادة الشعب، ماذا يريد الشعب ما دام الديكتاتور هو تجسيد لهذه الإرادة؟ جميع الحكام يحكمون باسم الشعب، ويطلبون منه الذهاب إلى النوم وتربية الأطفال وانتظار الاستدعاء فى حشود لتحيى الديكتاتور أو مؤازرته فى معارك مع أعداء فى الخارج والداخل. مصر كانت مبارك، وقبله السادات وناصر، توحد يجعل الحاكم بديلا للبلد، يمنح الحاكم للبلد معناه، ونظامه السياسى، النظام يشبه الرئيس، لا العكس. هنا السياسة تسير فى اتجاه واحد، ديكتاتور فى قصره يفرض كل شىء، ويحرك كل شىء بتوجيهاته، والشعب خارج الشرفة يطلب طلب مؤدب، تسمعه فقط أجهزة التنصت، والاستخبارات، همس قد يعكر صفو الديكتاتور، أو يقلق راحته أن تحول إلى زومة، أو احتقان قد يسفر عن خروج القطيع عن اتفاق الانتظار. الشعب دائما فى حالة انتظار. ولم يكن غريبا هنا أن ينتظر الشعب من المجلس العسكرى تحقيق مطالب الثورة. الجيش لم يغادر عقل النظام القديم، وتصور أنه انفرد بغرفة الأقدار وحده من دون الرئيس. وتعامل مع إرادة الثورة على أنها مطالب، مجرد مطالب سينفذها حسب إيقاع يضمن له السيطرة على إدارة البلاد، والعمل فى هدوء لتجهيز مرحلة انتقال للسلطة، تحافظ على موقع للمؤسسة العسكرية فى صلب الدولة، وتحجز الثورة عند حدود بعيدة عن المساس بالمصالح الكبرى للمؤسسة. فى الفكرة بعد أخلاقى: الجيش يريد أن يدخل التاريخ، وينقل مصر إلى العصر الديمقراطى.. أو على حسب خيالات بعض الأصدقاء يحلم أعضاء المجلس العسكرى بأوتوبيس مكشوف يمرون فيه فى ميدان التحرير، بينما يصطف الشعب على الجانبين لتحية من حققوا الانتقال إلى نظام الدولة الحديثة. إرادة من أعلى، واستمرار للعقلية القديمة بأن الدولة تسقط من أعلى ولا تبنى من أسفل. الجمهورية الجديدة ورغم ديمقراطيتها، مثيرة للقلق، والهواجس، ولكل أمراض الانهزام والعجز وانعدام الثقة. لا يدارى الجيش أبويته، ولا أخفى قطاع من الشعب اليتم، بل إن تشكيلات معارضة تعيش حالة يتم غير معترف بها منذ رحيل مبارك. معارضة أيتام مبارك، تدربت على اللعب فى الحديقة الخلفية، أقصى طموحها الهتاف بسقوط الرئيس، ولم يكن هتاف السقوط متاحا إلا بعد موجات الجسارة التى بدأتها كفاية وطورتها «6 أبريل» ووصلت عبر الخيال الحر إلى إسقاط النظام عبر تنظيم غير مرئى، كسر الطوق الأمنى وشكل وحدته عبر فضاء الإنترنت. خيال دفع الأجسام للنزول إلى الشارع، ومواجهة آلة حماية الرئيس مباشرة، فى معادلة حياة أو موت، تحولت معها فكرة التغيير إلى قوة مادية، كسرت رقبة النظام وفتحت مسرح السياسة إلى الملايين، لكنها لم تصنع ذراعها وأقدامها، وقبلهم عقلها السياسى بعد..ولهذا تسود فى الثورة مشاعر الانتقام وحالة الهياج على اصطياد رموز النظام المخلوع، من الرئيس وعائلته إلى أصغر مدير فى شركة حكومية. الانتقام يقابله تدليل من المجلس لهذه الرموز، بحث عن أشكال قانونية، ورغبة فى احترام رئيس يصفونه بالسابق، كأنه غادر موقعه بمزاجه لا بعد ثورة أوقفت ماكينات حمايته ببسالة مدهشة. الجيش يدير بمنطق السيطرة، والثورة تريد الخروج عن سيطرة النظام القديم، وهنا تتقاطع الرغبات. الجيش بخبرات الجمهورية الأبوية. والثورة لم تكوّن خبراتها بعد. والمؤلم هو العودة إلى حالة انتظار الأقدار تخرج هذه المرة من سراديب سرية تدبر فيها المؤامرات. مؤامرة اسمها الفلول.. ومؤامرة اسمها أحمد شفيق أو عمر سليمان.. وكأن الثورة لم تحدث أو كأنها عادت إلى النوم انتظارا لحكمة المجلس. وكأنهم لن يعملوا فى بيئة معادية لهم.. بيئة عرفنا فيها خبرة إسقاط رئيس كان يقتلنا كل يوم باستبداده الناعم.