المشكلات كالخيوط المعقدة، لا تحل بسحبة خيط، بل بالتعامل مع العُقد واحدة بعد واحدة. ومنها مشكلة التعصب الدينى فى مصر. دائما تطرح مقولة إن «التعصب موجود على الجانبين»، كرد على انتقاد تعصب دينى معين. يا سلام! طبعا، التعصب موجود على كل الجوانب، فى كل الأديان، فى كل القوميات، وبين معتنقى كل الأفكار الوضعية الدنيوية. لا شك فى هذا. ولكن ليست هذه العقدة الحالية. بل هذه العقدة الكبرى التى تتعامل معها البشرية منذ وجدت. العقدة الحالية التى نتعامل معها هى كيف نكبح جماح مظاهر التعصب فى مكان معين وزمن معين، فى مصر، الآن. وبين مسيحيى مصر كثير من المتعصبين، بلا شك. بينهم هذه الفتاة من اتحاد شباب ماسبيرو التى انتشر لها فيديو تقول فيه إن الشهداء شهداء المسيح فقط، أما الشهادة من أجل الوطن أو من أجل أى فكرة أخرى فهى ليست شهادة حقيقية. هذه الفتاة لا فرق بينها وبين متطرفة إسلامية إلا فى المظهر. وهى -ككل المتعصبين فى كل دين- لا ترى التعصب فى دينها، بل تؤكد أنه لا تعصب فى ديانتها. لا تعلم مثلا أن أوروبا حتى القرن قبل الماضى فقط كانت تقتل على الهوية الطائفية، بدعم من رجال الكنيسة. ولا تعلم أنه باسم المسيح أجريت مذابح ليهود، ولوثنيين، بل وأبيدت حضارات بأكملها فى الأمريكتين. وحتى الآن، كثير من الحركات اليمينية المتعصبة فى أوروبا تستقى تعصبها وتروج له بمرجعية مسيحية، مثل رابطة الدفاع الإنجليزى فى إنجلترا، وحركة مكافحة السود فى أمريكا وجنوب إفريقيا. لا أقول هذا لكى أرد عليها، فأنا لا أشغل بالى -عادة- بالنقاش مع المتعصبين، لأنى أعتقد أن مشكلتهم تكمن فى الطريقة التى تعمل بها عقولهم، لا فى نقص المعلومة، ولا قلة المعرفة. إنما أقول هذا لكى أعود إلى النقطة التى بدأت منها هذا المقال. إن المشكلات كالخيوط المعقدة وإننا نتعامل معها عقدة عقدة، الأقرب فالأقرب. وفى الوضع الحالى فإن المسيحيين أقلية فى مصر. وأقلية -لعوامل كثيرة- لا تملك من الوسائل ما تستطيع به اضطهاد الأغلبية ولا أذيتها، مما يجعل مشكلة التعصب المسيحى فى مصر أقل إلحاحا من مثيلتها الإسلامية. أما المسلمون فأغلبية، والتعصب فى صفوف الأغلبية مؤذ مباشرة لأى أقلية. هذه نقطة. النقطة الأخرى أننا كبشر نتسامح مع من وقع عليه الأذى حين يتجاوز فى لحظة غضب، لكننا لا نتسامح مع الأقوى حين يفترى. هذا بلا شك طبع النفوس ذات المروءة، أما النفوس الجبانة فتفعل العكس تماما. كما أن التعصب اللفظى، وإن كان مقيتا، فإنه يمكن ببعض النضج تجاهله ما دام لا يدعو إلى إلحاق الأذى بالغير. بمعنى؟ لا يعنينى كثيرا -كمؤمن بديانة معينة- أن يعتقد إنسان أن ديانتى محض هراء، لأننى أعلم أن من لا يؤمنون بديانتى أضعاف من يؤمنون بها. بشرط -وهذا مهم جدا- أن لا يؤدى اعتقاده هذا إلى اضطهادى. كثير من المسلمين الطيبين، والمسيحيين الطيبين، يعتبرون أن دينهم هو الحق وأن الله سيجازيهم فى الآخرة بالجنة، التى لن يراها الآخرون. قد تتفق أو تختلف معهم، لكنك تعلم أن ذلك شىء من طبيعة الأديان، ومن ثم يمكن التعايش معه ما دام أنه لن ينسحب على تعامل الآخر معى فى الدنيا. أى أنه لن يمنعنى حقا لأنه يؤمن أنى لن أدخل الجنة، لن يحرمنى من وظيفة أو من الترقى الوظيفى، لن يقاطعنى بيعا وشراء، لن يبيعنى بسعر أغلى، لن يحرمنى من السكنى فى شقة، ولن يتلاعب فى درجات امتحانى التحريرى أو الشفوى بسبب دينى، ولن يحجر علىّ فى ممارسة شعائر دينى. المشكلة تكمن حين تكون لفظة الكفر أو الهرطقة كلمة السر لاستحلال الدم والممتلكات، وللأذى الجسدى والمعنوى. وهذا بالضبط الفارق الدقيق بين المتدين والمتعصب. الأول منهما يرى دينه هو الحق (ولذلك يؤمن به)، لكنه يعلم أن الإيمان يعتمد على عوامل اجتماعية ووراثية وجغرافية، ويتفهم أن آخرين غيره يؤمنون أيضا بأديانهم ويعتقدون أنها الحق، ويعيش كشخص ناضج، مع هذه الحقيقة البشرية. أما المتعصب فيعتقد أن الله اصطفاه فى الدنيا قبل الآخرة، وأعطاه الدنيا، لا الآخرة فقط، حقا له دون الآخرين. هل استطعت التعبير عن فكرتى؟ أتمنى!