كل من كتب عن أحداث ماسبيرو دون نفس طائفى سأل الناس سؤالا واحدا: كيف سيكون موقفكم لو هدم جماعة من المتطرفين مسجدا فى فرنسا، ثم خرج المسلمون ليحتجوا فواجهتهم قوات الأمن بهذا العنف؟ يكتب الكاتب والكاتبة هذا -ومنهما كاتب هذه الكلمات- وهما يعتقدان أن المثال واضح وجلى. ثم نكتشف أنه ليس واضحا إلا فى عقول قويمة التفكير، وقلوب مهدية إلى حب الناس. أما مع الطائفيين المتعصبين، فقد غاب عنا أن أصل طائفيتهم ينبع من إيمانهم بأنهم أفضل من غيرهم، وأنهم مستحقون لمعادلة أفضل من غيرهم فى الدنيا والآخرة. المتعصبون اليهود يعتقدون أن الله اختار نسل إسرائيل من دون الناس وفضلهم على العالمين. والمتعصبون المسيحيون يعتقدون أن من لم يؤمن بالمسيح سيظل موصوما بالخطيئة الأصلية مهما فعل. والمتعصبون البيض يعتبرون أنهم أفضل جينيا وجسديا وذهنيا من الملونين. والمتعصبون السود يعتقدون أنهم أصل البشرية وأن البيض تفوقوا لأنهم سرقوا حضارتهم. وهكذا المتعصبون المسلمون: يعتقدون أنهم خير أمة أخرجت للناس. ما مقومات هذه الأفضلية؟ لا يشغلون بالهم. لقد قرروا أن يقلدوا المتعصبين فى العالم كله ويتبعوا تعاليمهم بدلا من اتباع تعاليم الإله الذى يزعمون ليل نهار أنهم يعبدونه ويطيعونه. لا أحب عادة الدخول فى نقاشات فقهية لعدة أسباب. أولا، لأن القرآن حمال أوجه، كما قال الإمام على بن أبى طالب. وفرق الإسلام الثلاث والسبعون كلها ذات أسانيد وأدلة وحجج من القرآن. وثانيا، لأننى أرى المعرفة الإنسانية كما رآها أسلافنا حين كانت حضارة الشرق الأوسط منارة، معرفة تتجاوز المعرفة الدينية لأنها تضم إليها المعرفة العلمية والمعرفة الفلسفية والاجتماعية والأخلاقية والسلوكية والاقتصادية والسياسية، أوجزها العظيم ابن خلدون فى لفظة «العمران». لكننى، إذ أخاطب هنا المعتصبين الذين لم يفهموا المثال البسيط العميق الذى استخدمه الكتاب والذى أشرت إليه أعلاه، فسوف أحدثهم فى المعرفة الوحيدة التى يدعون أنهم من أهلها. أقول لهم مطمئنا إنه لا خيرية فى الإسلام للمسلمين على غير المسلمين فى الدنيا، أما الآخرة فأمرها إلى مالكها. الآية القرآنية: «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر» فسرها القرطبى بإضافة أداة شرط واحدة، «إذ»، فقال: كنتم خير أمة أخرجت للناس «إذ» تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر. الآن، هل العدل بين الناس على اختلاف ألوانهم وأديانهم يصنف ضمن «المعروف» أم «المنكر»؟ هل اعتداء أفراد العامة على دور عبادة غير المسلمين (واعتداء غير المسلمين على دور عبادة المسلمين) يصنف ضمن «المعروف» أم «المنكر»؟ هذا سؤال أتركه لهم. لكن الأكيد أن الخيرية المذكورة فى الآية ليست خيرية مطلقة، بل مشروطة. ولو أخذ القرآن بظاهره، فإن هناك نصوصا تعد اليهود والمسيحيين بالأفضلية (وعلم الله أبدىُّ). فى سورة «الجاثية»: «ولقد آتينا بنى إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فى ما كانوا فيه يختلفون». وهو معنى تكرر فى أكثر من موضع فى القرآن. وفى «آل عمران»: «إذ قال الله يا عيسى إنى متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فى ما كنتم فيه تختلفون». ليس مصادفة أن الخطابين القرآنيين كليهما -وأحدهما فى «آل عمران» والثانى فى «الجاثية» كما أشرنا- انتهيا بنفس الإشارة: أن المرجع إلى الله وهو يحكم يوم القيامة فى ما اختلف الناس فيه. تفكر وتدبر فيها قليلا، ففيها حكمة لا تخفى إلا على قلوب عليها أقفالها. وليست مصادفة أن الزيغ المشار إليه يأتى من البغى فى ادعاء العلم، والبغى هو تجاوز الحد، أى ما نسميه التشدد، وتحميل الأمور أكثر مما تحتمل، وتعسير اليسير. وما جرى على الأمم السابقة يجرى على المسلمين. «لتتبعن سنن من كان قبلكم». فالتشدد والبغى فى العلم الدينى يزيغ النفوس والقلوب. لا تغترى إذن بمن طالت لحيته وتلا من القرآن كثيرا، فإن الذين زاغوا عن الدولة الإسلامية الوليدة ونخروا فى جسدها موصوفون على لسان مؤسس الدولة بأنهم «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية». حكِّمى عقلك!