من هى يا ترى مدام ريمة التى ترجع دائما لعادتها القديمة؟ هل هى فتاة عصرية بالبنطلون الجينز تتحدى ضفائرها المتمردة الهواء الساخن فى عز الحر، بينما هى تقف على السقالة لتشرف على العمال فى بناء مستشفى لعلاج التهاب الكبد الوبائى، أم أنها سيدة صالونات تحفظ الأغانى الوطنية وتجيد العزف على الجيتار؟ هل هى طالبة بجامعة القاهرة أو عين شمس أو حلوان، هتفت مع الثوار فى ميدان التحرير دفاعا عن كرامة مصر؟ أم أنها من العناصر التى اعتادت أن تجندها مباحث أمن الدولة لتكفر الخروج على الحاكم؟ الآن أكتشف أنها ليست أحدا بالذات.. إنما هى حالة عقلية تعطل مراكز الإدراك فى المخ على مستوى الفرد أو الجماعة.. لكنها غالبا ما تنتشر -كالآفة- فى مراحل التحولات الكبرى. الآن أكتشف أنها طريقة فى اللا تفكير، استبدت بالأغلبية الساحقة من المهتمين بالشأن العام.. كلنا -بدرجة أو بأخرى- مدام ريمة، التى ترجع دائما لعادتها القديمة. عشرات المنتحبين فى ميدان مصطفى محمود، ما زالوا يرفعون صور الديكتاتور المجبر على التنحى، مطالبين بعودته -دونما إبطاء- إلى قصر العروبة، وعلى فكرة: هناك مثل إسبانى أحبه كثيرا يقول: «تقدر تعمل من البيض عجة، لكن لا أنت، ولا أى أحد يقدر يرجع العجة بيض»! إنهم يتحرقون شوقا إلى أن تتفرغ ريمة هانم لكل عاداتها القديمة دفعة واحدة، بدءا بإصدار الأوامر بقتل مئات المصريين من شباب الثورة، أو بالسطو -بلا خجل- على أموال الشعب، أو تزوير إرادته، أو الانبطاح أمام العدو. وقد شكلوا جماعة اسمها: «آسفين يا ريس». المتأمل لهذه الصورة يظن أول الأمر أنهم يضفون على المنظر العام نكهة ميلودرامية من النوع الذى لا يثير فى الحقيقة غير الضحك.. لكن من يتفحص الموقف مليا لا بد أن يكتشف أنه من أعراض الماسوشية، أو ما يشخصه الأطباء النفسيون بأنه النزوع المرضى إلى تحقير الذات أو تعذيبها. حكومة الدكتور عصام شرف التى اكتسبت شرعيتها من ميدان التحرير، سرعان ما سيطرت عليها ريمة هانم، فراحت تعالج المشكلات بتصديرها إلى المستقبل، تماما كما اعتادت أن تفعل حكومات النظام البائد، مرة بحجة أنها مجرد حكومة تصريف أعمال، وأنها استلمت دفة القيادة فى ظروف بالغة القسوة، ومرة بدعوى أنها مكبلة اليدين، وأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة -الذى يتمتع هو وحده بسلطتى رئيس الجمهورية ومجلسى الشعب والشورى- لا يسمح لها بأن تنفذ بالكامل مطالب الثوار. لا أحد يتشكك فى نزاهة الدكتور شرف أو حبه لهذا الوطن، غاية ما فى الأمر أن التركة التى آلت إليه -بعد ثلاثين عاما من الفساد- كانت أثقل من أن يحملها على كتفيه، وأن اللحظة أكبر من أن يواجهها -بمفرده- رجل واحد أيا من كان، مع مراعاة أن التدرب على القيادة الجماعية فى مثل هذه الظروف مغامرة غالبا ما تنتهى بتبادل الشتائم. أحزاب ما قبل 25 يناير لم تبرح من الأصل عادتها القديمة، حتى ترجع إليها. ظلت تمارس هوايتها المفضلة فى التشرذم إلى أن صارت كالأرانب التى تلد أحزابا أخرى منشقة مع كل طلعة شمس. كانت تنظر إلى النظام البائد باعتباره قانونا طبيعيا كالرياح أو الأمطار أو الفيضانات، ومن ثم فإن مجرد التفكير فى تغييره ضرب من الأوهام. استقر فى عقلها الواعى، أو نصف الواعى، أن السياسة ما هى إلا ندوة كبيرة بعيدا عن الناس، يتبارى فيها الخطباء. المشهد فى ميدان التحرير نهار يوم الجمعة 29 يوليو الماضى، كان استنساخا لغزوة أحد، عندما تكالبت بعض الجماعات على أكثر الغنائم ترخصا، ضاربة عرض الحائط بوحدة الصف فى مواجهة العدو الذى لا يزال يتربص بثورة 25 يناير. الظاهر أن ريمة أرادت هذه المرة الرجوع إلى ما قبل عادتها القديمة، وأن هناك من ظلوا يتقهقرون إلى الخلف قرونا بأقصى سرعة، إلى أن وجدوا أنفسهم دون أن يشعروا فى قاع الجاهلية، وعلى ما يبدو فإنه من الجائز القول: إن لدينا الآن ما يمكن تسميته بالدين الوهابى، الذى لا يأخذ من الإسلام سوى المظهر الخارجى، كالجلباب أو اللحية أو غطاء الرأس، متخليا عن قيم الحرية والشوق إلى العدالة وكرامة الإنسان.. كيف اختفت أعلام مصر لكى ترفرف بدلا منها أعلام الدول التى تمول الحركات الوهابية فى العالم العربى؟! ما معنى هذه الرايات السود؟! ما الرسالة التى يسعى البعض إلى إيصالها؟ هل يريدون إقناعنا بأن مصر تتأفغن على الرغم من إرادة شعبها؟ هل يريدون أن يضعونا أمام الأمر الواقع، فنستسلم لفكرة أن هناك من يسخرون دور العبادة للدعاية السياسية أو التحريض على إهدار دم المصريين، الذين يحلمون بوطن أجمل؟ هل هذا هو ما يريدونه؟ العائدون من أفغانستان، أو الذين خرجوا من السجون بفضل الثورة التى قاموا منذ اللحظة الأولى بتكفيرها، تهافتوا نهار الجمعة 29 يوليو على الميدان ليأكلوا لحمها الحى.. هل جاء اليوم الذى نرى فيه صور أسامة بن لادن تتصدر أكبر ميدان فى القاهرة؟ وعلى مسمع ومرأى من الجميع، راحوا يدفعون البلد نحو التجربة الأفغانية.. هل احتلت طالبان قلب القاهرة، أم أن هناك من أعلنوا الحرب على قرنين من التنوير الذى حملت مصر لواءه على الدوام؟! لو كان الأمر بيدى، لطالبت على الفور بعقد محاكمة علنية لمدام ريمة، التى -كلما أردنا أن نتنفس الهواء النقى- هوت بنا فى ليل الزمان، حيث لا شىء سوى العفن.