نعيش عديدا من الأكاذيب التى اكتسبت بمرور الزمن طعم الحقيقة، صدقناها لأنها أحلى من الحقيقة! بمناسبة احتفالنا بثورة يوليو خذ عندك مثلا هذه الحكاية التى نشرت مئات المرات تفاصيل الحكاية أن أنور السادات عندما جاء للإذاعة الساعة السابعة والنصف من صباح 23 يوليو وأذاع أول بيان للثورة التقى على سلم الإذاعة المطرب محمد رشدى، سأله ح تغنى إيه النهاردة أجابه رشدى «اللى مكتوب ع الجبين». انزعج السادات لأن هذا فأل سيئ وطلب منه «قولوا لمأذون البلد». لو عدت إلى الأرشيف المقروء والمسموع والمرئى ستجد أن السادات لم يكذب هذه الواقعة قبل وبعد أن أصبح رئيسا للجمهورية، ولو أمعنت التفكير أو حتى دون أن تمعن فستكتشف استحالة حدوث ذلك، فما الفرقة الموسيقية التى يستيقظ كل أفرادها فى الفجر لتسجيل أغنية؟ ثم الأهم أن شاهد الإثبات الوحيد الذى على قيد الحياة وهو الإذاعى فهمى عمر، حيث كان مذيع الهواء فى أثناء أحداث الثورة، أكد لى أن هذا محض خيال، ووثائق هذا اليوم فى جدول البث الإذاعى تم الاحتفاظ بها ولن تجد فيها لا «قولوا لمأذون البلد» ولا «المكتوب على الجبين». لماذا لم يعترض السادات على تلك الرواية طوال تلك السنوات؟ أتصور أنه وجدها كذبة بيضاء تمنح الثورة ظلالا مرحة. ولماذا لم يكذبها منذ 59 عاما الإذاعى فهمى عمر؟ سألته فقال لى «لم يسألنى أحد. أنت سألتنى الآن وأقول لك إنها كذبة»! حكاية ثانية ننتقل فيها من السادات إلى عبد الناصر هى فيلم «شىء من الخوف» 1968. كلنا صدقنا ورددنا أن كاتب الرواية ثروت أباظة كان ينتقد شرعية عبد الناصر فى حكم مصر من خلال هذا النداء «جواز عتريس من فؤادة باطل». عتريس هو عبد الناصر وفؤادة هى مصر.. الرقابة وقتها انزعجت من الفيلم، وشاهده عبد الناصر وصرح به، وقال لثروت عكاشة وزير الثقافة وقتها: «لسنا عصابة تحكم مصر يا ثروت».. تخوف الرقابة بالتأكيد واقعة حقيقة، ومشاهدة عبد الناصر الفيلم حقيقة ولكن أن يقصد ثروت أباظة انتقاد شرعية عبد الناصر فى رواية ثم تنتجها الدولة فى فيلم، هذه الواقعة هى التى نسجناها من خيالنا، أسقطنا من خلال الكبت الذى عاشه المصريون فى زمن عبد الناصر على شخصية «عتريس» كل ملامح الطغيان، وفى نفس الوقت صارت فؤادة بكل جمالها وصمودها هى مصر، فصدقنا تلك الكذبة، ولا نزال نصدق! من الأقاويل التى لها مذاق الحقيقة زواج سرى بين أم كلثوم ومصطفى أمين وأنها وجهت فى قصيدة «الأطلال» إلى جمال عبد الناصر عام 66 بعد عامين من إلقاء القبض عليه نداء غنائيا تطالبه فيه بالإفراج عنه مرددة «أعطنى حريتى أطلق يديا.. إننى أعطيت ما استبقيت شَيّا»، والحقيقة أنه فور إلقاء القبض على مصطفى أمين فى فيلته بالإسكندرية اقتحمت المخابرات مكتبه فى أخبار اليوم وعثروا بين الأوراق على وثيقة جواز عرفى بالفنانة شادية، وتسرب من المخابرات أنه تزوج عرفيا بمطربة شهيرة ولم يذكرو اسمها، اعتقد الناس وعدد من المؤرخين أنها أم كلثوم، ولهذا خلعنا على كلمات «الأطلال» العاطفية رداء سياسيا! عندما غنت شادية «آه يا اسمرانى اللون» اعتبروها غزلا فى عبد الناصر، وعندما قال عبد الحليم «اللى شبكنا يخلصنا» قالو إنها تعريض بعبد الناصر... أكاذيب بيضاء، صدقناها لأن طعمها أحلى من الحقيقة!