لعل الحق سبحانه وتعالى، ييسر لى أن أنشر كل يوم جمعة قصة قصيرة فى مكان هذه الزاوية اليومية، أعلم أن ذلك قد يُسعد بعض القراء، المهتمين أكثر بالأدب والفن، كما أنه بالتأكيد قد لا يتناسب مع آخرين، يفضلون المقال المباشر، الذى يتعامل مع الواقع بطريقة واضحة، من حيث العرض التفصيلى، أو النقد التحليلى، أو التأمل والتفكر فى ما نعانيه فى هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة. وقصة اليوم «أستاذى» نُشرت ضمن المجموعة القصصية «تقاسيم على أشجان قديمة». «ما أجمل العودة إلى البيت. ففى هذه الشرفة عشت أسعد أوقات حياتى. حين كنا نجتمع جميعا، أنا وأبى وأمى وإخوتى. كل منا يحكى عما حدث له خلال يومه. وكل منا يشعر بالآخر ويحبه. نتسامر ونضحك حتى ونحن نتناول الطعام. والآن ها هى أمى تعيش وحيدة. بعدما رحل أبى، وتفرقنا جميعا من أجل لقمة العيش. وكلما عدت فى إجازة، أسرع مشتاقا إلى أمى، وإلى هذا البيت الجميل. أجلس الساعات الطويلة فى هذه الشرفة الحبيبة. أسترجع الذكريات الحلوة، وأتأمل فى هذه الحياة الدنيا. واليوم وأنا أشرب الشاى بالشرفة، رأيت رجلا ومعه صبى يتحاوران أمام محل عم محمد الجزار. إننى أعرف هذا الرجل جيدا. إنه الأستاذ سعيد منصور مدرس الرسم. هذا رجل لا يمكن أبدا أن أنساه. تركت الشاى، ونزلت لأسلم عليه. أسرع إليه، وأنا أسترجع كلماته التى تَفتّح وعى عليها. فهو أول من حدثنا عن أهمية الكتب، والموسيقى، واللوحات الفنية. وهو أول من كلمنا عن دور الثقافة فى نهضة الشعوب وتحررها. هو من علمنا معنى الديمقراطية الحقيقية، ونبهنا لدور الديكتاتوريات العسكرية، والقبَلية، فى تخلف منطقتنا العربية. وعندما كنت أتذكره طوال هذه السنوات الماضية، كنت أتصوره، وقد أصبح فنانا مشهورا يحادث الناس عبر وسائل الإعلام، ويشرح لهم العلاقة بين الفن والحرية. بينما معارضه ولوحاته الفنية تدور حول الكرة الأرضية. وصلت إليه داخل محل الجزارة. سلمت عليه بشوق حقيقى، ولكنه بالكاد تذكرنى، وارتبك بشدة وأنا أقول لعم محمد: هذا أستاذى. إنه ما زال يعمل فى مدرستى! سألته بسذاجة إن كان أقام معارض فنية، فقلب يديه وعلى وجهه ابتسامة حزينة! كنت أتمنى أن أحادثه عن أشياء كثيرة. فدعوته مع ابنه لزيارتى لكنه اعتذر، إذ كان يبدو عليه الارتباك الشديد، والقلق العميق. أهذا حقا أستاذى الفنان الذى كان يعلمنا؟! وجدت عم محمد يزن نصف كيلو مليئا بالدهون، فمددت يدى -بلا وعى- أزيحه، وسألته إن كان أعد لى اللحم الذى طلبته، قال: نعم. فأخذته، وأعطيته للصبى وأنا أقبّله، وقلت لأستاذى إننى أسكن هنا، وفى انتظار أن يشرفنى. تَمنّع الرجل بصدق، وأنا أقول له إن النبى قبل الهدية. لكن تشبث ابنه باللحم أنهى المجادلة. وأنا أشد على يده رأيت علامات الفرح والسعادة على وجه الصبى، بينما الدموع متحجرة فى عينَى أستاذى!».