إنه «باب الحديد»، الفيلم لا المحطة، منذ بداية الثورة تتداعى إلى ذهنى عشرات المشاهد من مختلف الروائع السينمائية، أما فى الأيام الأخيرة، خصوصا منذ اجتماع الأحزاب الأخير بالمجلس العسكرى، فلا يلح على عقلى سوى «باب الحديد»، ومشهد النهاية الخالد، عندما يختطف قناوى (يوسف شاهين) الجميلة هنومة (هند رستم)، ويرقد بها على شريط القطار، ويضع سكينه الكبير على رقبتها، ويقترب منهما القطار ويتوقف قبل سنتيمترات قليلة من العاشق والجميلة، ويتجمع الناس محاولين تخليص هنومة من قناوى، قبل أن يطلب عم مدبولى (القدير حسن البارودى) من ضابط البوليس أن يسمح له بالتفاهم مع قناوى الذى فقد عقله تماما. لماذا لا نحاول أن ندخل فى الجو أكثر: يقترب عم مدبولى بهدوء شديد، ويهمس لقناوى: «قناوى يا بنى، رد علىّ أنا عمك مدبولى، إنت زعلان ليه؟ ده أنا هاجوزك هنومة، والمهر معايا وفى جيبى أهو، هاعملك فرح كبير قوى، فرحك يا قناوى، الليلة دخلتك على هنومة، ماانتاش مصدق؟ قوم، قوم البس جلابية الفرح». طبعا أنت تعرف ما يحدث عندما يقوم قناوى كى يلبس، فهو يلبس قميص المجانين، بعد أن يسحب منه أبو سريع (فريد شوقى) السكين الكبير، وعلى هذا المشهد الحزين، تنزل تترات النهاية. من طبائع المشاهد الخالدة أنها تصلح لكل أنواع الإسقاطات، وعلى عكس ما قد يتبادر إليه ذهنك، فإننى لا أقصد تشبيه المجلس العسكرى بعم مدبولى، ولا تشبيه الأحزاب والقوى السياسية بقناوى المضحوك عليه، الذى يخسر هنومة ويخسر حريته أيضا، الواقع أننى أقصد العكس تماما، إذ يتكشف كل يوم أن كثيرا من تلك القوى تظن أن المجلس العسكرى هو «قناوى»، أقولك إزاى. مع احترامى لأهمية الانتخابات المقبلة، التى يفترض أن تكون أول انتخابات حرة فى تاريخ الجمهورية المصرية، التى يفترض أن تمنح القوى السياسية الشرعية الجماهيرية التى ستستند إليها فى مواجهة أى ضغوط أو أطماع، إلا أنه من غير المعقول أن تظن القوى السياسية أنها خلال الفترة من الآن، حتى تنتهى الانتخابات، عليها أن «تدادى» المجلس العسكرى كما فعل عم مدبولى مع قناوى، إلى أن تنتزع منه السكين، أقصد السلطة، وعليه فإنها لا تلح فى مسألة قانون الطوارئ، ولا تقاوم المحاكمات العسكرية للمدنيين كما ينبغى، وتتخاذل أمام إغلاق قناة «الجزيرة- مباشر مصر»، واقتحام مكتبها مرتين، وتصمت أمام مصادرة ثلاث صحف مستقلة، بل ووقف طباعتها قبل أن توزع، وتسكت عن العودة الواضحة لأمن الدولة فى ثوب الأمن الوطنى، ثم تبرر كل ذلك الصمت والتخاذل والتراجع، بأنها تنتظر الانتخابات، على اعتبار أن الانتخابات هى الحل السحرى الذى سينهى كل المشكلات، وينفخ الشجاعة فى القلوب ويرسم الشوارب فى الوجوه، ويعيد العسكر إلى الثكنات. وهكذا تتصرف تلك القوى مثل عم مدبولى، تقترب من المجلس على أطراف الأصابع، تكلمه بحنان ومودة، ولا تفتح معه المسائل الأخطر، سواء ما سبق ذكره، أو ما يخص علاقة الجيش بالحكم بعد الانتخابات، و«تسليم السلطة إلى الحكم المدنى المنتخب» كما وعد المجلس العسكرى. لا يخرج عما سبق، غضب القوى الدينية من تلك المدنية ومن ما تسميه «النخبة»، إذ تفترض بعض القوى الدينية لسبب أو لآخر، أن المجلس العسكرى هو ذلك الكيان الساذج البرىء، «قناوى مجددا» الذى لا يطمع إطلاقا وبتاتا فى أى نصيب من السلطة، لكن المثقفين الوحشين هم الذين يوسوسون إليه و«يفتحون عينيه على الحاجات الوحشة دى»، وهكذا درج خطاب تلك القوى على إطلاق شكاوى من نوع «النخبة التى تزيّن السلطة للعسكريين الزاهدين فى الحكم»، أو «النخبة التى تقنع العسكر بالالتفاف على الإرادة التى أقرها الشعب فى الاستفتاء» إلخ، وبغض النظر عن كون الاستفتاء قد صار الأكثر انتهاكا فى التاريخ، فإن ذلك الخطاب لا يصور فقط المجلس فى صورة قناوى الساذج، بل يضع النخبة مكان عم مدبولى. أعزائى، سواء كنتم من هؤلاء أو من أولئك، فالحق أقول لكم، أنا أصدق المجلس العسكرى عندما يقول إنه لا يريد ولا ينوى الاستمرار فى السلطة، لنقل إننى (أريد) أن أصدق أن المجلس لا يريد ولا ينوى الاستمرار فى الحكم، ولكن -يا أصدقائى- إن من ينوى تسليم السلطة لا يغلق القنوات، ولا يحاكم المدنيين عسكريا، ولا يفعّل الطوارئ، ولا يصادر الصحف. من ينوى تسليم السلطة لا يعود إلى الرقابة والتتبع والمراقبة وأساليب أمن الدولة، ولا يعتقل الثوار، ولا يتهمهم بالعمالة والخيانة والبلطجة، وفى أفضل الأحوال تخريب البلد، هل يمكن أن تجتمع كل تلك الممارسات فى «مجلس واحد» مع نية تسليم السلطة؟ يجوز، أنتم أدرى، على كل حال كلنا نتمنى الفوز بهنومة، والواقع أن مصر أجمل بكثير من هنومة، لكن الأكيد، أن المجلس مش قناوى.