أسوأ لص فى الدنيا هو اللص الذى لديه ضمير راهب. هذا لص شائن، ولص فاشل، يجب أن تتبرأ منه رابطة اللصوص العالمية. تخيلى الجملة السابقة كالآتى: أسوأ طبيب فى الدنيا هو الطبيب الذى لديه ضمير لص. هذا طبيب شائن، وطبيب فاشل، يجب أن تتبرأ منه رابطة الأطباء العالمية. هذه الجملة الثانية ليست أكثر من تكرار بديهيات، والبديهيات حين تتكرر «تفطس» الأفكار وتبعدها عن سياقها. لأن عقولنا تسرع إلى التقاط ما اعتادت عليه. لكننى أعنى ما قلته فى الجملة الأولى تماما. كل إنسان يعمل فى مهنة لن يتوافق معها إلا حين يكون لديه الضمير المناسب لها. وفى درس «علم النفس» الأول لنا فى الكلية قال لنا المحاضر مقولة لن أنساها ما حييت: «إن الله يغفر الذنوب جميعا، لكن جهازنا العصبى لا يغفر أيا منها». اللص الذى لديه ضمير راهب لص معذب. لا يتوقف عن اللصوصية لأسباب تتعلق بالسعادة التى يجدها فيها والحاجة الحياتية التى يقضيها بها، ولا يتوقف عن تعذيب نفسه ومن حوله، بسبب الضمير الذى ينقح عليه من حين إلى آخر، ويحتاج إلى مسكنات لإراحته. واللص الذى هكذا سمته لا يمكنك أن «ترمى طوبته»، بل إن ضميره يجعلك تحاولين معه إن كنت صديقة أو قريبة، فيستنزفك شعوريا ويقتلك فى اليوم ألف مرة، ويشدك إلى طاحونة عذابه، ويسرب إليك آلامه. ليس هذا فحسب، بل يعطيك دائما الأمل فى الانعتاق، ثم، هوبا، يصدمك مرة واثنتين وعشرا. الأنكى من ذلك أن النفس تتفاعل بطريقة غريبة مع عذاب الضمير، وتنتج وسائل دفاعية تخالف المنطق الذى تتخيلينه. حين ترينه باكيا معترفا تتوقعين أن المرة كانت آخر مرة، وأنه قطع رحم المرات القادمة. لكن هيهات.. اللص ينتج وسيلة دفاعية أولى هى الإنكار. سلوك مؤقت يمارسه من وقت إلى آخر لإراحة «جهازه العصبى»، ينكر فيه مسؤوليته عما يفعل، ولا يتخيل أنه يفعله، ويحمل المسؤولية للظروف مرة، ولشىء لا يعرفه ولا يستطيع تحديده مرة أخرى. ثم ينتقل من نوبات الإنكار المتكرر إلى الإسقاط، فيبدأ فى اتهام من حوله بأنهم ليسوا أحسن منه فى الحقيقة، بل إنهم يفعلون كذا وكذا وكذا من اتهامات لا يملك دليلا عليها. فيرى نفسه التى لا يحبها فى من حوله، وهات يا مشاكل فى هذا الاتجاه. ثم يعود عن ذلك كله فى نوبات من الصدق، ويتوق إلى الخلاص، بالموت لا بالتوبة. فالتوبة أيسر اسم لأصعب مهمة. التوبة هى بوتقة معارك النفس والدنيا والرغبات والضمائر والمصالح والإصلاحات والانتقام والأمل. خلطة مرة الطعم لا يستسيغها عادة أصحاب النفوس التى تميل إلى اختيار الطرق الأسهل، والذين استمرؤوا الرسوب فى امتحانات النفوس. يفشلون إذن. ينقمون على أنفسهم. ينقمون عليك لأنهم أرادوا أن يظهروا أمامك بمظهر حسن وفشلوا. يضعونك هدفا للتحقير لكى تتساوى الرؤوس. ثم يضعونك أنت شخصيا هدفا للانتقام، لأنهم قرروا التخلص من تلك الأجزاء الباقية، المؤرقة، من ضمائرهم، ويعتقدون أن أحسن وسيلة لذلك أن يثبتوا أنهم يستطيعون أذيتك أنت بالذات من دون كل الناس. سيتفننون فى الأذى من أجل هذا الغرض. لن يمارسوا عليك اللصوصية المعتادة المتوقعة، بل سيصنعون لك شيئا مفتخرا يستحق ثمنه (إذا سرقت اسرق جمل). طيب والعمل؟ لو كنت أعرف لما ضننت عليك به، ولنصحت نفسى. أتمنى أن أنصحك بأن تبتعدى تماما ولا تسمحى لهؤلاء بتسريب حيواتهم المعقدة إليك. لكننى أعرف أن ما يربطنا بالناس يكون أحيانا أقوى من قدرتنا على الفكاك منه بهذه السهولة. أتمنى أن أنصحك بعدم التخلى عن الأمل، لكن التجربة، والتكرار، مع تلك الشخصيات، خنقت الأمل حتى لم يعد هو نفسه قادرا على الكلام. للأسف، كل ما نستطيع أنت وأنا أن نتمناه هو أن يتخلى هؤلاء اللصوص عن ضمائرهم، أن يدركوا أنهم لصوص، وندرك نحن أنهم -بضمائر أو دون ضمائر- لصوص. فلا يطلبون منا يوما نصحا، ولا يكون لدينا فيهم يوما أملا.