بعض الشخصيات الثرية فى تكوينها العلمى، وخبراتها المتميزة وروحها الوثابة، وعقلها اليقظ، وروحها الجميلة المركبة، تبدو لى عصية على المقاربة، يمكنك التركيز على بعض مداخلها التى تبدو لوهلة يسيرة لمن تابع هذه الشخصية أو تلك من موقع التخصص أو المتابعة لأدوارها العامة، أو لإنتاجها العلمى، أو حضورها العام، أو لدورها السياسى أيا كانت مواقعه أو دوائره فى الدولة والنظام السياسى، أو فى قلب المعارضات التى يفور بها الواقع الموضوعى، وبين الناس. بعض الشخصيات الثرية فى تكوينها العلمى، وخبراتها المتميزة وروحها الوثابة، وعقلها اليقظ، وروحها الجميلة المركبة، تبدو لى عصية على المقاربة، يمكنك التركيز على بعض مداخلها التى تبدو لوهلة يسيرة لمن تابع هذه الشخصية أو تلك من موقع التخصص أو المتابعة لأدوارها العامة، أو لإنتاجها العلمى، أو حضورها العام، أو لدورها السياسى أيا كانت مواقعه أو دوائره فى الدولة والنظام السياسى، أو فى قلب المعارضات التى يفور بها الواقع الموضوعى، وبين الناس. الشخصيات المركبة من حيث التكوين، والاهتمامات، والأدوار ومسارات الشخصية وكفاعل متعدد الاهتمامات والأداءات، تبدو الأكثر صعوبة، لأن الإحاطة بتداخل المكونات والأبعاد والأدوار يبدو من الصعوبة بمكان. أبدو وجلاً فى الحديث عن صديقى د. جابر عصفور، الاسم العلم فى الحياة الثقافية المصرية والعربية. تعرفت على الناقد الشخصيات المركبة من حيث التكوين، والاهتمامات، والأدوار ومسارات الشخصية وكفاعل متعدد الاهتمامات والأداءات، تبدو الأكثر صعوبة، لأن الإحاطة بتداخل المكونات والأبعاد والأدوار يبدو من الصعوبة بمكان. أبدو وجلاً فى الحديث عن صديقى د. جابر عصفور، الاسم العلم فى الحياة الثقافية المصرية والعربية. تعرفت على الناقد والمثقف النقدى، قبل تعرفى على شخصه، من خلال كتابة المرايا المتجاورة عن أستاذنا طه حسين، وأبديت اعجابى بالكاتب والكتاب إلى أستاذنا السيد يسين، ثم اقتنيت بعض كتبه التى نشرتها دار التنوير، وتابعته بعد ذلك فى كتاباته الأخرى، خارج مؤتمرات وزارة الثقافة التى أخذنا موقفًا نقديا من سياستها، ولم نشارك قط فى أى من مؤتمراتها أو أنشطتها، إلا ندوة حول صديقى الأعز د. أنور عبد الملك. جابر عصفور يمثل نمطا من سلالة تاريخية من المثقفين النقديين الحداثيين من نهاية القرن التاسع عشر، وحتى هذه اللحظة التاريخية الحرجة فى الثقافة المصرية والعربية. نمط متتابع الأجيال أرهقه ميراث التخلف التاريخى لمجتمعاتنا العربية، لاسيما فى شيوع النزعة الماضوية التى تعيد إنتاج المتون والهوامش النقلية، وحولتها إلى أحد مكونات المقدس المتعالى، نزعة حولت المتون والهوامش عليها إلى قدس أقداسها، وذلك دون مساءلتها تاريخيًّا، ونقديا، ونزع هالة القدسية عنها، والسعى إلى معرفة ومتابعة تجارب التحديث للدولة ومؤسساتها وأجهزتها، والسعى لمعرفة السؤال المركزى لماذا تقدموا؟ ولماذا تخلفنا؟ فى بنيات مجتمعاتنا، وفى نظم الأفكار؟ والمناهج، والآلات الاصطلاحية والمفاهيم، والنظريات. كل جيل من هذه الأجيال حاول أن يجد إجابات، وفق تخصصه أو أبعد من ذلك قليلا. من هنا بدأ الشيخ حسن العطار، ورفاعة رافع الطهطاوى، وخليفة المنياوى، ومحمد عبده، ومصطفى المراغى، ومحمد عبدالله دراز، ومحمود شلتوت، وعبدالمتعال الصعيدى، من داخل الأزهر. ومدرسة القضاء الشرعى أحمد أمين، ومدرسة الحقوق فى دراسة الشريعة. اتجاه حاول بعض التجديد وصدته المؤسسة الدينية والسلطة السياسية، ودعمه القضاء المستقل، ووصل إلى مأزق تاريخى. شكل الأستاذ العميد طه حسين فى نصه التأسيسى الأول، نقطة تحول مهمة فى مسار الفكر المصرى الحديث، ثم نكص عنها. من هنا كان طه حسين، الملهم الأول والمؤثر فى التكوين النقدى لجابر عصفور، من حيث عمق التكوين والوعى النقدى بالتراث الأدبى، والفكرى والدينى، وفى الوقت ذاته من خلال اللغة الإنجليزية لمتابعة التطورات النظرية والمنهجية فى الأدب وفى الاطلاع على الفلسفة، ومنظومات الأفكار الجديدة التى ألهمت وطورت الفكر الغربى فى النصف الثانى من القرن العشرين. هذا المزج المؤتلف ما بين الفكر العربى والغربى، مع حساسية وذائقة أدبية وجمالية رفيعة، ميزت كتابات جابر عصفور لغة خاصة وبنية أسلوبية رصينة ومترعة بالجمال والسلاسة والعمق، فى التحليل النقدى للشعر، والسرديات الروائية والقصصية. من هنا تشكل كتب وتحليلات جابر عصفور، نقطة تحول فى الكتابات النقدية والأكاديمية، أدت إلى الخروج من منهج الانطباعية النقدية، إلى التحليل النقدى المنهجى الذى يزاوج فى براعة بين اللغة الاصطلاحية، والنظرية والمفاهيمية، وبين التطبيق فى تناسق ومرونة، ودمج وائتلاف خلاق، ومن ثم تشكل كتاباته سردية نقدية متميزة فى جيله والأجيال اللاحقة. والأهم هو تطويعه للمفاهيم والمصطلحات الغربية، وسلاسة تطبيقها، مع ابتكار لمصطلحاته النقدية الخاصة. سعة الاطلاع فى مرجعيات مختلفة التخصص، خارج نطاق تخصصه الأكاديمى، واستلهام مسار الأستاذ العميد، فى تألقه التأسيسى الأول ثم تراجعه، ومتابعة مسارات السلسلة الذهبية للمثقفين المصريين، أعطته مهارات المناورة فى مجتمع متخلف، وسلطة حارسة لأبنية تاريخية ومؤسسات تابعة لها تساهم فى ترسيخ استمراريتها وهيمنتها على الدولة والمجتمع، والإنتاج الفكرى النقدى والمستقل، الذى شكل أحد همومها ومخاوفها لاسيما بعد تأسيس نظام يوليو. يبدو لى أن مهارة وملكة المناورة ساعدت بعض كبار المثقفين من شريحة منتجى الثقافة العالمة وهم قلة القلة تاريخيًّا، فى الاستمرارية والإنتاج الرصين، الذى يبدو عصيا على الإمساك به من السلطات السياسية والدينية التابعة. جابر عصفور استوعب هذا الدرس، ومن هنا يمكن إدراجه ضمن السلطة التاريخية للمثقفين والمفكرين، الذين نطلق عليهم مفكرى الدولة، الذين لعبوا أدوارًا مهمة فى السعى إلى تحديثها ومحاولة تطوير المجتمع، وتحفيزه على الخروج من دائرة التخلف التاريخى المستمر، من خلال العمل فى أجهزتها ومؤسساتها. هذا الدور التاريخى، يشكل سمت نشأة وأدوار المثقف المصرى منذ البعثات الأولى فى عهد محمد على باشا، وإسماعيل باشا، وما بعد. بدءًا من مانورى المحامى السكندرى واضع الهندسة القانونية الحديثة، إلى رفاعة رافع الطهطاوى، إلى طه حسين، وسلامة مرسى، ولويس عوض، وجابر عصفور والسيد يسين وما بعدهم فى الأجيال اللاحقة، وآخرين مهمين لم يحظوا بالذيوع لعديد الأسباب السياسية والدينية وتركيبة الدولة والنظام وشبكاته العلوية داخل الجماعة الثقافية المصرية. المثقف والمفكر المصرى نشأته وأدواره اختلفت عن النشأة التاريخية فى أعقاب قضية درايفوس ذائعة الصيت، كانت فى إطار دولة مركزية تؤسس للتحديث، وترسل البعثات، وتدمج الخريجين والمثقفين فى إطار أجهزتها. من هنا كان دور المفكر والمثقف المصرى الحداثى بناء المؤسسات القومية، والمشاركة فى إدارتها، من ناحية والارتقاء بالوعى السياسى والاجتماعى، من خلال النزعة الحداثية النقدية والعقلانية والتقدم والتطور –على الخلاف بين المفهومين وتعاقبهما- والسعى إلى دفع البلاد إلى الأمام. من هنا شاركوا بالأفكار فى إطار الحركة القومية المصرية فى التنظير لفكرة الأمة المصرية، وبالفكر والحركة والعمل فى إطار السعى إلى الاستقلال فى المرحلة شبه الليبرالية، وفى إطار مشروع التنمية والتحرر الوطنى فى المرحلة الناصرية، ونقد النظام التسلطى فى عهدى السادات ومبارك. فى قلب هذه العمليات التاريخية الكبرى يمكن وضع جابر عصفور المفكر الذى تجاوز تخصصه كناقد، إلى المساهمة فى تحريك الفكر النقدى، وبناء المؤسسات فى إطار الدولة، أو تفعيل ما هو قائم فيها، بصرف النظر عن خطابنا النقدى للسياسة التى حركت الثقافة فى مصر. جابر عصفور أحد بناة المؤسسات وتفعيلها، وهو أمر بالغ الأهمية. ناهيك عن دوره فى مواجهة الفكر الدينى المتطرف كمثقف نقدى، وربما كانت آراء أكثر جرأة مما تحتمله المؤسسات والأشخاص فى بنية السلطة المصرية. تختلف أو تتفق مع مواقف أو أفكار جابر عصفور إلا أن هذين الدورين بالغا الأهمية فى مساره كمثقف وناقد، لعبا دورًا بارزًا فى المؤسسة الثقافية المصرية وخارجها. جابر الصديق، تشكلت علاقاتنا بين التوتر والمودة الصادقة والتقدير العميق له شخصًا، وإنسانا، جميل المعشر والروح الوثابة، والميلُ إلى الدعابة الذكية، والأناقة فى الملبس والمأكل، وعشق الجمال، والحكاء المبهر، وميراث متراكم ومتطور من الخبرات والحكايات. صديق لديه القدرة والمهارة فى سبر أغوار الآخرين، واستكناه دواخلهم، والفرز الذكى، بين الطيبة والشر وما بينهما من تداخلات وظلال. روح وثابة وجميلة تخايلها الشقاوة اللطيفة الحاملة لشباب القلب والعقل معًا. تستريح النفس لحديثه وبوحه الشجى، وإلى صداقات مشتركة مع أحبة وأصدقاء أعزاء بعضهم سافر طويلا فى الغروب، رحمهم الله، وبعضهم لا يزالون يملؤون حياتنا بالصدق والمحبة والإخلاص، والإبداع والعمق الإنسانى والرحابة والتسامح. جابر عصفور، الاسم العلم، هو أحد أبرز مثقفى النصف الثانى من القرن العشرين ولا يزال. نحبك ونقدرك ونحترمك، كصديق غالٍ وحبيب، ومثقف كبير المكانة والمقام.