د. مجدي العفيفي قبل الحديث عن الآثار المستمرة الناجمة عن تفشي ظاهرة الفرعونية والهامانية والقارونية في المجتمعات الإنسانية، وهي الظاهرة التي تبيد أعتى أمة مهما كان جبروتها في كل زمان ومكان، طالب الكثير من السادة القراء بوقفة معرفية عن الكلمات الثلاث: (فرعون.. هامان.. قارون) هل هي أسماء أم ألقاب أم صفات..؟ ولأنني بين يدي دراسة غير تقليدية تكسر السائد والمألوف وتدعو إلى التفكير في (اللا مفكَّر فيه) وهي للمفكر الدكتور محمد شحرور (الدولة والمجتمع) فإننا نستعين بما ورد فيها إزاء هذه النقطة أو هذا المهاد. قبل الحديث عن الآثار المستمرة الناجمة عن تفشي ظاهرة الفرعونية والهامانية والقارونية في المجتمعات الإنسانية، وهي الظاهرة التي تبيد أعتى أمة مهما كان جبروتها في كل زمان ومكان، طالب الكثير من السادة القراء بوقفة معرفية عن الكلمات الثلاث: (فرعون.. هامان.. قارون) هل هي أسماء أم ألقاب أم صفات..؟ ولأنني بين يدي دراسة غير تقليدية تكسر السائد والمألوف وتدعو إلى التفكير في (اللا مفكَّر فيه) وهي للمفكر الدكتور محمد شحرور (الدولة والمجتمع) فإننا نستعين بما ورد فيها إزاء هذه النقطة أو هذا المهاد. أما فرعون، فقد اشتقت من جمع فعلين في اللسان العربي، وهما أصلان صحيحان، الأول (فرع) يدل على ارتفاع وعلو وسمو، ومنه (الفرع) وهو علو الشيء، وفرعت الشيء فرعا إذا علوته، ويقال أفرع بنو فلان إذا انتجعوا في أوائل الناس، وفرعة الطريق ما علا منه وارتفع (ابن فارس م4 ص 491). والثاني (عون) وهو أصل صحيح، ومنه اشتقت أما فرعون، فقد اشتقت من جمع فعلين في اللسان العربي، وهما أصلان صحيحان، الأول (فرع) يدل على ارتفاع وعلو وسمو، ومنه (الفرع) وهو علو الشيء، وفرعت الشيء فرعا إذا علوته، ويقال أفرع بنو فلان إذا انتجعوا في أوائل الناس، وفرعة الطريق ما علا منه وارتفع (ابن فارس م4 ص 491). والثاني (عون) وهو أصل صحيح، ومنه اشتقت الإعانة والماعون والعوان، والضربة العوان، التي تحتاج إلى مراجعة (تاج العروس) والحرب العوان، التي كانت قبلها حرب بكر، ثم تكون عوانا كأنها ترفع من حال إلى حال أشد منها (كتاب العين للفراهيدي)، فالعوان هي التي لها قبل ولها بعد، كالبقرة العوان في قوله تعالى: {… قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون} "البقرة- 68". والعوان في البقر هي التي قبلها بكر وبعدها فارض. ومن هذين الفعلين (فرع + عون = فرعن) نأتي إلى معنى فرعون، ففرعون هو أعلى الهرم في السلطة ويحمل صفة الاستبداد (البطش والشدة)، وهي ظاهرة كانت قبل موسى وبقيت بعده، تطلق على ممارسي الاستبداد السياسي والبطش والشدة من قبل ومن بعد، بغض النظر عن أسمائهم الحقيقية كأشخاص، كرمسيس وتحتمس وأمنحوتب. وأما هامان، فجاء من فعل (همن)، ونقول المهيمن أي الحافظ والرقيب، كما في قوله تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه…} "المائدة- 48"، وهامان جاء لقبا للشخص الحافظ لأوامر الآلهة والرقيب عليها بين الناس، ومثاله في قوله تعالى: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} "نوح- 23". فجاء ذكر الآلهة بصيغة الجمع للدلالة على تعدد الآلهة، وعلى أن لكل إله هامانه الخاص، وعلى أنه كان لقوم نوح خمسة آلهة، وعندهم خمسة هامانات، أو ما نسميهم رجال دين، يدعون أنهم حافظون لتعاليم الآلهة ورقباء على تنفيذها بين الناس، أي الحفظ كجانب إلهي من المهمة، ورقابة التنفيذ كجانب إنساني للمهمة. وحين يتعدد هؤلاء، يصبح لهم رئيس يدعى هامان، فهامان فرعون كان رئيسا للكهنة، والرجل الثاني في السلطة، أو ما نطلق عليه رأس السلطة الدينية (رئيس العلماء)، حتى في حال دين الإله الواحد خالق السموات والأرض، بعيدا عن الوثنية والأصنام وتعدد الآلهة، فكل الذين يدعون أنهم حافظون لدين الله، رقباء على تطبيقه، وأن الدين يمر من خلالهم في الاتجاهين من الله أو من الرسول إلى الناس، ومن الناس إلى الله، هم من الهامانات، عرفوا ذلك أم لم يعرفوا، شاؤوا ذلك أم أبوا، أشخاصا كانوا أو مؤسسات، فقد جاء الإسلام للناس كافة دونما حاجة إلى هامانات، وإذا رأينا أو سمعنا من يدعي الاختصاص بهذا الدين، وأن العلم به يأتي عن طريقه وبوساطته حصرا لسبب أو لآخر، فهو هامان، بغض النظر عن اللقب الذي يعطيه لنفسه. أما قارون فجاء من فعل (قرن)، وهو أصل يدل على جمع، وعرفه الله سبحانه بفحش الغنى في قوله: {وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة}، وبأنه ليس له وطن أو قومية في قوله: {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم}، فقارون من قوم موسى لكن الله صنفه مع فرعون وهامان في قوله: {وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات}، كما أخبرنا الله سبحانه في هذه الآية بأن هؤلاء الثلاثة أعوان (عوان) لهم سوابق وسيكون لهم لواحق، وذلك في قوله: {فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين}. فقارون فرعون تمثله الآن الشركات الاحتكارية الكبرى التي ليس لها وطن (متعددة الجنسيات) وتملك من الكنوز {ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة}، لكن ذلك لا يعني أبدا الرأسمالية الوطنية، أو الغنى المشروع، فقارون لقب لنوع خاص من الغنى، هو الغنى الاحتكاري الكبير، وليس الغنى بشكل عام، لأن الغنى النسبي والفقر النسبي من ظواهر جدل المجتمعات الإنسانية. وقد أطلق القرآن على بقية الناس مصطلحا هو {المستضعفون في الأرض} وهؤلاء المستضعفون قادرون على مواجهة فرعون وهامان، كما في قوله تعالى: {… ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}، هنا نلاحظ أنه لم يضع قارون مع فرعون وهامان. رغم الخيوط المتشابكة في العلاقات بين هؤلاء الثلاثة، وإذا تساءلنا ما هي صفات كل من هذه الألقاب..؟ نجد الإجابة في هذه السطور: أن فرعون لقب وليس اسم علم لشخص بعينه، وقلنا إنه يعني الاستبداد السياسي والانفراد بالسلطة، فمقومات هذا الاستبداد والانفراد هي: ادعاء الربوبية، وادعاء الألوهية. أما ادعاء الربوبية كما في قوله: {أنا ربكم الأعلى}، و{أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي}، فيدعي لنفسه صفات الربوبية التي وردت في قوله تعالى: {إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدئ ويعيد وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد} "البروج- 12 – 16". وأما ادعاء الألوهية كما ورد في قوله تعالى: {ما علمت لكم من إله غيري}، فيدعي صفة الألوهية التي جاءت في قوله تعالى: {… أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا}، "الكهف- 26"، فالحاكم المستبد يبدأ فيدعي بأن كل البلد ملكه الشخصي، ويتصرف على هذا الأساس {أليس لي ملك مصر}، ثم ينتقل إلى التصرف على أساس أن الناس العاقلين ملكه أيضا، تمهيدا للادعاء الثاني، وهو ادعاء الألوهية، الذي يختص بالعاقل فقط كما في قوله: {ما علمت لكم من إله غيري}، وقوله تعالى: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون}، "الأنبياء- 23". فالألوهية تتضمن الطاعة الكاملة من الناس لفرعون، بألا يتصرفوا بشيء بقناعاتهم الشخصية دون إذن منه، لذا قال فرعون للسحرة {آمنتم به قبل أن آذن لكم} وأنزل بهم العقوبة بقوله: {لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين}، لا لأنهم آمنوا برب موسى وهارون، وإنما لأنهم آمنوا قبل أن يأذن لهم، ولو أنهم استأذنوه لكان من الأرجح أن يأذن لهم، لأنهم باستئذانهم له، لا يتحدونه في ألوهيته. في منظور الدكتور شحرور أن هاتين الصفتين من صفات الحكم الاستبدادي المطلق، ومن صفات الظاهرة الفرعونية، لا تزالان حتى يومنا هذا. فليس من الضروري أبدا أن يقف المستبد ويعلن صراحة أنه رب البلد وأنه إله سكان البلد، وإنما يعرف ذلك من صلاحياته ومن نمط الحكم نفسه. مقابل ذلك، نجد أن الناس الذين يعيشون تحت سيطرته لهم صفة الأشياء، فالمجتمع عدد على الهامش، بغض النظر عن المنظمات والمؤسسات الموجودة فيه. لذا وصفهم تعالى بالفسق في ظل فرعون بقوله: {فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين}، "الزخرف- 54". هذا التأصيل الفكري لظاهرة الفرعونية والهامانية والقارونية يستتبع معرفة أثرها على المجتمعات الإنسانية، وهذا الأثر يتجلى في استشراء سرطان (الاستبداد).. الذي تعاني منه الإنسانية وستظل.. ما دام هناك فرعون كرمز للاستبداد السياسي والسلطة.. وقارون كرمز للاستبداد الاقتصادي.. وهامان كرمز للاستبداد العقائدي.. ثم يأتي الاستبداد الاجتماعي، لتندرج تحته كل العلاقات الاجتماعية الموروثة من عهود الانحطاط وما يمثلها، الراسخة باسم الأعراف، التي وصل التطرف فيها أحيانا إلى إدراج التقاليد الاجتماعية تحت باب الحلال والحرام. وهناك الاستبداد الفكري.. ولنا معه وقفة.. باعتباره أخطر أنواع الاستبداد.. الذي تجلى وتجسد بظاهرة تفويض الآخر، وبالنظرة الدونية للذات، إلى الدول الأوروبية، فأصبحنا مصابين بعقدتين: عقدة دونية تجاه الغرب والدول المتحضرة، وعقدة دونية تجاه السلف. وغدونا مستسلمين ثقافيا، إما للسلف أو للغرب، إذ يستحيل أن يكون الإنسان قزما أمام السلف، وعملاقا أمام الغرب. وهذه هي الناحية المطلوب تغييرها في أنفسنا ثانيا، ليغير الله ما بنا، طبقا للآية: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} "الرعد- 11".