عقارب الساعة تشير إلى الثانية ظهرًا مؤذنة بمغادرة الطائرات مدرجاتها، لتبدأ في قصف مبان في صحراء سيناء، وتحتها على الجانب الغربي من قناة السويس، يقف مئات الجنود مكبرين، والسابق مشاهد اعتدنا أن نراها في كل فيلم يتناول حرب أكتوبر، تروي كيف اندلعت، ثم تتوالى لقطات من مواجهات، وهلم جرا، حتى نصل في النهاية إلى مشاهد تهليل الجنود ورفعهم علم مصر على الأراضي المحررة، وقد من الله عليهم بنصره.. في طفولتك تستوقفك تلك المشاهد كثيرًا، فمن لم يطلب منه صغيرًا أن يقدم رسمة تعبر عن حرب أكتوبر، نرسم رجالا يعبرون ورجالًا آخرين صرعى تحت علم يحمل نجمة داوود. مذكرات جندي مصري هناك العديد من الضباط كتبوا مذكراتهم عن الحرب، كما أسلفنا، ولكن النادر أن تجد من بين الجنود من دوّن تلك اللحظات، وهذا ما نجدهفي كتاب أحمد حجي، "مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس"، والذي دوّن فيه "الشهيد" ما لاقاه ورفاقه خلال حرب الاستنزاف، فقد توفى خلال المواجهات عام 1972، وطبعت مذكراته بعد ذلك بنحو 20 عامًا. المذكرات تكشف الوجه الكامل للجنود، كيف كانت حياتهم على الجبهة، ومقارعتهم العدو، واحتكاكهم بأبناء الشعب، فيتحدث فيه "حجي" بصدق تام، ويقص كيف يتنازع الجنود الشعور الإنساني الطبيعي من هول الحرب، ورغبتهم في الثأر والقتال، ويروي عن الإغارات التي كانت تتم على مواقع إسرائيلية، ويتحدث أيضًا عن المدنيين الذين كانوا يزورون نقطته، وكيف أنهم تأثروا بهم، فارتفعت روحهم المعنوية بهم وليس العكس. "حجي" خريج كلية الطب البيطري، كان يساريا وطنيا، كتب في مجلة الطليعة، وأسهم في محو الأمية في قريته، وفي العام التالي لتخرجه تم تجنيده، وكان مقر خدمته بعيدا عن القتال لكنه طلب نقله إلى الجبهة، فيقول عن ليلته الأولى هناك: "حضرتني كلمات كنت قد قرأتها للشاعر الروسي إبلينا سيلنفسكي: فلتصمت الكلمات.. وليتكلم البارود". جنود الممر في حروب مصر الثلاث مع إسرائيل، 1956، 1967، 1973، كانت الممرات الجبلية في سيناء، وأشهرها متلا، ساحة للمواجهة بين الجيشين، ولعل أحد أفضل الأفلام الحربية المصرية التي تؤرخ للمواجهات مع إسرائيل، وهو "أغنية على الممر"، كان مميزًا في الغاية في تقديم صورة للجنود بشكل واقعي، فنرى فيه كيف انقطعت الاتصالات بين الجنود المتحصنين في مواقعهم بالممر، والقيادة في سيناء، وذلك خلال يوم السادس من يونيو1967. الفيلم قدم صورة واقعية لحال الجنود، وإن كان لم يقدم قصة حقيقية بمعنى أنها مستوحاة من أحداث وقعت بالفعل، فنجد أنهم جميعا اختلفوا في مسارات حياتهم، بينهم البسيط الذي يحلم بالزواج من حبيبته، و"الشاويش" الذي صار قائدهم بعدما استشهد الضباط في المواجهات، وهو الفلاح الذي استدعي مرة أخرى ل"الجهادية"، وترك غرسه وأسرته، ونرى فيهم الفتى المثالي الذي لم يجد ما يحسن أن يفعله في مجتمعه، ووجد ضالته في الحرب، فهو أحسنهم في إصابة الأهداف بمضاد الدبابات، ونجد الفنان الوطني الذي لم تجد كلماته المحبة لبلاده، وشعره النبيل مكانًا بين واقع فني منحدر، وأخيرًا الشاب الذي ادعى الثراء وما هو إلا محتال أراد تغيير حياته الصعبة، واعتاد الكذب، وانهزم تاركًا إياهم يدندنون أغنية الفيلم الشهيرة، وهو يصرخ "مش عايز أموت"، ليلقى حتفه بلغم. الكتيبة 603 الحديث عن معارك ممرات سيناء يطول، وكل حجر هناك يشهد عن مأثرة لجندي مصري نزف أو استشهد عليه، وهنا يأتي الحديث عن الكتيبة 603، والتي بدأت المواجهة قبل الجيش كله، وفي تمام الواحدة والنصف من يوم 6 أكتوبر، بدأت في تنفيذ المهمة الموكلة إليها، وهو احتلال المدخل الغربي لممر متلا. مهمة كبيرة للغاية مكلفة بها تلك الكتيبة، فهي المسئولة عن منع وصول الإمدادات الإسرائيلية من وسط سيناء ونحو النقاط الحصينة في خط برليف، وظل الإسرائيليون يقصفون موقع الكتيبة بعنف، ويحاولون مرارا اقتحام خطوطها الدفاعية دون جدوى، وعلى الضفة، وبالتزامن مع تلك المواجهات الشرسة، تساقطت نقاطهم الحصينة الواحدة تلو الأخرى. القصة لم تنته عند هذا الحد، فتلك الكتيبة كلفت باحتلال نقطة كبريت الحصينة، وهو ما نجحت فيه، وهنا بدأت الملحكمة الحقيقية، 114 يومًا ظلت فيه تلك الكتيبة تقاتل، حتى بعد وقف إطلاق النار ظلت تناوش مع العدو الإسرائيلي، الذي أراد احتلال تلك النقطة لتحسين شروطه التفاوضية، وهو ما عجز عنه، حتى توقفت أعمال القتال تمامًا في 14 يناير 1974. التليفزيون المصري أنتج حينها عملًا دراميا تحت اسم "ملحمة كبريت"، نقل فيه حال الجنود والضباط من أفراد الكتيبة، وكيف كانت روحهم المعنوية، وماذا صنعوا عندما انقطع عنهم الإمداد، واستعانوا بطرق مبتكرة لتحلية مياه البحر. المجموعة 39 قتال الرئيس جمال عبد الناصر لم يركن لهزيمة 67 كثيرًا، فما كانت أيام حتى أتت توجيهاته بشن عمليات إغارة على العدو حتى لا يهنأ بالأراضي التي استولى عليها، وبالفعل قامت قوات خاصة من الصاعقة والمظلات، وحتى المشاة، بالإغارة على المواقع، وتكبيدهم خسائر في الأرواح والمعدات والذخائر. القيادة ارتأت أن يتم تشكيل قوة خاصة، هم نخبة النخبة، من ضباط وجنود القوات المسلحة، لتنفيذ عمليات شديدة التعقيد خلف خطوط العدو، وقد كان الأمر، وتم تشكيل المجموعة 39 قتال، تحت قيادة البطل إبراهيم الرفاعي، وذلك في العام 1968، ليكن لها السبق في أنها صاحبة أول عملية أسر من صفوف العدو، وتتابعت العمليات الناجحة لتلك المجموعة، حتى قامت حرب أكتوبر، وأوكلت للمجموعة تنفيذ أعمال نوعية، نجحوا في إتمامها، حتى تم سحبهم لتنفيذ أعقد وأشرس مهمة لهم على الإطلاق. قد وقعت الثغرة، وفي صباح يوم 18 أكتوبر، تقدم أرييل شارون ومعه 200 دبابة ولواء من جنود المظلات الإسرائيلية نحو مدينة الإسماعيلية، وقررت القيادة، الاستعانة برجال الرفاعي، الذين ما أن صاروا على مقربة من خطوط الإسرائيليين، حتى صرخ الرفاعي فيهم: "الرجل بدبابة"، واندلعت الاشتباكات، وطلب شارون إخلاءه مدعيًا الإصابة، ليتهمه بعد ذلك الجنرال جونين قائد الجبهة الإسرائيلية بالفرار من أرض المعركة. وفي اليوم التالي، 19 أكتوبر، اشتبكوا مع العدو في محاولة لتدمير قواته، وشاء الله أن يصاب الرفاعي بشظية، وينقله جنوده إلى المستشفى لإسعافه، ليرتقي بين الشهداء، فيقول "أبو الحسن": "كان هذا يوم 23 رمضان وكان صائما، وقد تسلمنا جثته بعد ثلاثة أيام، وفي حياتنا لم نر ميتا يظل جسمه دافئاً لهذه المدة، وتنبعث منه رائحة المسك". هذا غيض من فيض، فالكثير يمكن أن يحكى عن الجنود، بطولات بشر معجونة بالرمل والدماء، وهناك في سيناء ومدن القنال ستجد أثرهم، ولو أخذت تزيح الرمال قليلًا لتجد خوذة أو باقي "قايش" أو سلسلة تعريف بمجند، كتب الله له أن يموت فداء لهذا البلد.