«الصعيدي مش عمة وبق معووج».. مقولة ظل يرددها الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي في كل مناسبة، يعلق بها على الأعمال الدرامية التي تتناول الصعيد، منتقدًا تركيزها فقط على الترميز الظاهري لأهل الصعيد ب«العمة البيضاء» وتشنجات الشفاه المصطنعة عند النطق، دون تعمّق حقيقي في قضايا الجنوب، وسار على دربه في تكرار نفس القول كثير من الأدباء والمثقفين المنحدرة جذورهم لبلاد الجبال الواعرة، ذلك على الرغم من أن للعمة قيمة متجذرة منذ أجداد الجدود، ومعاني كبيرة متوارثة لدى أهل تلك البلدان حامية الحرارة والطباع على اختلاف ثقافاتهم شديدة التعدد والتنوع، إذ يعتبرونها رمزًا للرجولة والكرامة فوق الجبهات، وترى النساء في رمزيتها مصدرًا للأمان كله، ومنها يمكنك تحديد المكانة الاجتماعية والاقتصادية لصاحبها ومنطقته وقبيلته، ويكفي أن تعرف أنك إذا أردت إهانة صعيدي والانتقاص من قدره دون نطق أو إشارة، فاخلع عنه عمامته. ويشهد الماراثون الرمضاني المقبل، عودة قوية للدراما الصعيدية بقائمة مسلسلات يقوم ببطولتها نجوم الشباك، تزامنًا مع إعلان مكثف ومستمر على مدى الشهور الأخيرة، من جانب الحكومة عن استراتيجيات وخطط لتنمية الصعيد، صاحبه إعادة الفضائيات عرض الروائع الدرامية القديمة التي تناولت الصعيد. العمة تميمة رمضان 2018 مع مطلع إبريل الجاري، بدأت المنافسة بين النجوم وصناع الدراما في الترويج لأعمالهم في رمضان، وغلب على بعضها الالتزام بالزي الصعيدي والعمامة التي ترسم ملامح من هويته، وعلى رأسهم الفنان محمد رمضان بمسلسله "نسر الصعيد"، الذي يجسد خلاله شخصيتين، الأولى: أب، وهو شيخ تحمل كلماته حكمة الزمن، والثانية: الابن (زين القناوي) ضابط مباحث، يتمتع بصفات الشهامة والجدعنة وأخلاق ابن البلد، يرى حاجة بلده لمجهوداته في مرحلة فاصلة، لذا يتقدم بطلب نقل خدمته إلى سيناء، لمحاربة الإرهاب، وتتوالى الأحداث. وبرغم ملامحه الشقراء، يظهر الفنان عمرو يوسف، بالملابس الصعيدية لأول مرة، ضمن أحداث مسلسل "طايع"، الذي تدور أحداثه حول شاب من الصعيد، له رأي خاص ومختلف في قضية الثأر، لكنه يقع في العديد من المشكلات، منها: تورطه في تهريب الآثار. وبعد نجاحه في "يونس ولد فضة" عام 2016، يواصل الفنان عمرو سعد، ارتداء العباءة الصعيدية هذا العام ضمن أحداث مسلسل "بركة"، من خلال شاب ذي أصول جنوبية عريقة، إذ كان والده عمدة الصعايدة، إلا أنه يقرر المغادرة إلى الشمال، ومواجهة الغربة في القاهرة مع والدته، ليتورط في مشاكل عديدة. الفنان رياض الخولي، يرتدي عمامة "سلسال الدم" للمرة الخامسة في رمضان المقبل، استثمارًا لمسيرة النجاح الكبيرة التي حققتها الأجزاء الأربعة من المسلسل في السنوات الماضية، بأحداثها التشويقية التي تعتمد على صراعات الثأر والانتقام مع دمج موضوعاتها في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فكرة إنتاج أجزاء جديدة من مسلسلات الصعيد، عادت بالفنان السوري جمال سليمان، لثياب رجل الأعمال «همام» وعمامته الكبيرة، بعد غياب 8 أعوام، وذلك في الجزء الثاني من «أفراح إبليس»، متطرقًا إلى قضية الخلايا النائمة لتنظيم «داعش» الإرهابي بالصعيد، وتجنيد الشباب وتدريبهم في الجبال. العمة في الدراما.. «الغلطة بفورة» العمامة التي تأخذ اهتمامًا كبيرًا من الممثلين والمخرجين في أثناء الإعداد للأعمال الدرامية التي تتناول الصعيد، ربما لا يعرف كثيرون أنها ليست مجرد قطعة من القماش تحاوط الرأس، وأن لها تاريخا طويلا وتفاصيل كثيرة وأنواعا وطرقا عديدة في اللف، وتحتاج إلى تركيز كبير ودقيق في تحديد الاختيار الأمثل حسب المحافظة والمنطقة والقبيلة والمكانة والطبقة الاجتماعية بخلاف الموروث الثقافي والفكري ودرجات الحرارة، وإلا فقد المسلسل مصداقيته وواقعيته، لذا يجب أن يكون صناع الدراما على دراية وفهم بكل هذه التفاصيل. من أين بدأت العمامة؟ في محاولة البحث عن قصة العمامة البيضاء وأصلها، قد لا تجد تفاصيل تاريخية محددة تمسك منها البدايات، فهناك من يشير إلى جذورها الفرعونية، مدللين على ارتباط بنائها الهندسي من حيث عدد اللفات وبعض أشكالها بالعدد 7 المقدس في موروث الفراعنة الثقافي، إلا أن مؤرخين أرجعوها إلى عصر النبي إدريس وأنه أول من ارتداها بعد تعليمه القراءة والكتابة وخياطة الأثواب لأبناء مصر، وذهب آخرون إلى نسب أصولها لقبائل العرب التي هاجرت في أزمنة قديمة من الجزيرة العربية إلى صعيد مصر، بحسب "بوابة الحضارات". العمة الأسوانية تنتشر في محافظة أسوان، وتستمد موروثها الثقافي من قبائل العبايدة والبشارية والعقيليات، التي تمتهن حرفة الرعي، وتتميز باختلاف اللفة وفقًا لنوعية الأقمشة المستخدمة، ويصل طولها إلى 3 و5 أمتار عادة من القطن، وكلما كبر حجمها توحي بأن مقام صاحبها كبير، وغالبًا ما تكون طبقات فوق بعضها حول الرأس بطريقة دائرية، وأحيانًا يستعملها أبناء العبايدة والبشارية في الصحراء الشرقية كبديل للكفن. وتتشابه العمامة الأسوانية مع نظيرتها في السودان، نظرًا للقرب الحدودي وحرارة الجو المرتفعة، ما يفسر سر ضخامتها وانتشارها في جنوب المحافظة حتى حلايب وشلاتين للحماية من أشعة الشمس الحارقة، على عكس المنطقة الشمالية ومحافظتي الأقصر وسوهاج. العمة القوصية عمامة مدينة قوص، هي الأشهر والأكثر شيوعًا بين أهالي قنا والصعايدة عمومًا، بفضل المكانة التاريخية التي تمتعت بها المدينة في العصر الفاطمي، وفرضت من خلالها طابعها الثقافي والحضاري، كونها كانت العاصمة الثانية لمصر. ويبلغ طول العمة القوصية، 2 متر من القماش، ولها طريقتان في اللف، الأولى: على شكل الرقم 7، كطبقات مفردة، والثانية: تأخذ شكل التفرد، وتكون منطقة من القماش أغلى وأخرى أقل على أي من الجهتين اليمنى أو اليسرى للرأس. عمامات الصوفية يضم الصعيد عددا كبيرا من التيارات الصوفية، وتكتسب العمامة هناك قداسة من ارتداء سيدنا محمد لها، وتمسك المريدين بالاقتداء بشيوخهم، وتتشابه عمامات المتصوفة بصورة كبيرة، ومنها: • العمة الإدريسية سميت بهذا الاسم نسبة إلى قبائل الأدارسة المتوطنة بأسوانوقنا، وتأخذ شكل المثلث في 7 لفات، وقد يلفها البعض 4 أو 5 لفات وينزلها إلى أسفل لتغطي الرقبة أو يجعل لها ما يشبه الذيل وتسمى "عدبة". • العمة الدندراوية تتميز بها قبائل الإمارة، بمدينة دندرة بقنا، وتأخذ شكل الرقم 7 مع زيادة الديل الذي يرخيه الدندراوي على رقبته اقتداءً بعمامة النبي محمد، ويرتديها كل المنضمين لتيار الدندرواية الصوفي في مصر والسودان وسوريا ولبنان، إعلانا منهم عن الانتماء الفكري حتى لو لم ينتموا للإمارة التي أفرزت هذا التيار الفكري. عمة شيخ العرب مشايخ العرب يمكن التعرف عليهم بسهولة، خاصة في مدينتي دشنا وفرشوط، بمحافظة قنا، إذ يرتدون نظرًا لمكانتهم الكبيرة، عمامتين ملفوفتين إحداهما فوق الأخرى، على عكس العامة والفئات الأخرى، الذين تحاوط رؤوسهم عمامة وحيدة. عمة التجار تعكس العمامة عمومًا مدى الثراء والقدرة المالية، وفي التجارة يرتدي صغار التجار عمة صغيرة طولها لا يتجاوز المترين، بينما يصل طولها عند الكبير منهم والذي يطلق عليه "شهبندر التجار" 6 أمتار. عمامة الحرفيين طوائف الحرف لهم طرقهم الخاصة في لف العمائم وتتميز بالبساطة وعدم التعقيد، وفي الغالب يستعينون بها للحماية من أشعة الشمس الملتهبة، مثل: • عمة الجمالة تجار الإبل يعتمدون شكلا تقليديًا في لف العمامة، وتكون على هيئة عقال وبالخصوص من ناحية الرقبة. • عمة العمال يرتدون عمامة في غاية البساطة لتقيهم فقط من حرقة الشمس في أثناء العمل، وهي عبارة عن "شال" أبيض اللون رخيص السعر مقارنة بالعمة القطن، يتم طيه في شكل مثلث، إذ يربط طرفاه حول الجبهة، ثم يغطى بعد ذلك الرأس كاملا، وقد يربط البعض "الشال" حول الرأس فقط. العمة في تراث الصعيد الشعبي تحظى العمة برصيد وافر في التراث الصعيدي، والذي تعبر عنه المواويل والأغاني الشعبية، ما بين الغزل والعشق كما في أغنية "صعيدي ولف العمامة قيراطين مولّع في قلبي"، وأيضًا "أنا قلت أقول لما عمتك لينا شايلاك للعازة، وأنت خليت بينا" و"رجالنا طلعوا الجبل لمة، مرشرشين الورد ع العمة"، كما حضرت العمامة في السخرية بأغنية: "مع السلامة يا أبو عمة مايلة"، للاستهزاء من المهزوم أو الذي انكشف ستره وبانت فضائحه حت يتم طرده بزفة شعبية، والتي استعان بها الشاعر الراحل صلاح جاهين في رائعته "الليلة الكبيرة". وتزخر الأمثال الشعبية الصعيدية، بذكر العمة، وأشهرها: "من كبرت عمته، الناس كلها في لمته"، وفي عقائد الصعايدة أن ابن القتيل يرث عمامة أبيه، ليظل حاضرًا في ذاكرته باستمرار، ولا ينسى أبدًا الثأر من القاتل. أشهر الصعايدة في الدراما تقديم الشخصية الصعيدية ليس أمرًا سهلًا، إذ يتطلب الغوص في أعماقها المركبة وتقمصها دون إغفال لأي تفصيلة حتى لو بسيطة، وتحفل الدراما التليفزيونية بعشرات المسلسلات التي ضمت فنانين كبارا نجحوا في تقديم الأدوار الصعيدية، وتركوا بصمة واضحة في دراما الصعيد، وآخرين صنعت منهم نجومًا، ولعل أبرزهم: الراحل عبد الله غيث في "ذئاب الجبل" والذي برع في تقمص دوره ووصفه النقاد بأنه نجم استثنائي، ويعد المسلسل ذاته علامة فارقة في تاريخ الفنان الراحل حمدي غيث الذي أكمل الدور بعد وفاة أخيه، كما يعتبر المحطة الأبرز في مشوار الفنان أحمد عبد العزيز. ولا أحد ينسى "رفيع بيه العزايزي" في مسلسل "الضوء الشارد"، الشخصية الأهم والفارقة في تاريخ الفنان الراحل ممدوح عبد العليم، ودور "أبو هيبة" للفنان الراحل محمود عبد العزيز في "جبل الحلال"، والفنان صلاح السعدني في "القاصرات"، والفنان الراحل نور الشريف في بطولة "خلف الله" و"الرحايا"، والفنان يحيى الفخراني في "شيخ العرب همام"، وأخيرًا الفنان السوري جمال سليمان، الذي أبدع في تقديم الأدوار الصعيدية، ما جعل المخرجين يحصرونه في هذه المنطقة.