بالونات بألوان مبهجة تملأ جنبات المكان الذي تتوسطه لوحة صفراء مكتوب عليها ثلاث عبارات وصفية «أتيليه العلاج بالفن»، مُعلق على جانبيها بورتريهات ل«الموناليزا وسيدة البحر» ولوحتين متجاورتين للترحيب بالضيوف والزائرين وباقات ورد متناثرة في كل مكان، وسجادة بنفسج طويلة مخططة تغطي أرضية المعرض بألوان زاهية، و«حصيرة» أخرى معلقة على الحائط مرسوم عليها أحد الطيور بشكل بدائي، وبورتريه مفرغ بداخله شجرة وساعة حائط ورسومات طبيعية متجاورة يغلب عليها البساطة، وشخبطة على بانر قماشي على الحيط تعلوها آيتان قرآنيتان «اقرأ باسم ربك الذي خلق»، «وقل رب زدني علمًا»، ومنتجات ومفروشات وزخارف يدوية عديدة مكدسة في كل الأرجاء تتحدث عن نفسها تشد انتباه الزائرين وتدفعهم لشراء قطعة أو قطعتين من تلك المشغولات اليدوية، للاقتناء أو تقديمها هدية لأمهاتهم خلال عيد الأم. «أتيليه العلاج بالفن».. هنا المعرض السنوي للمنتجات الفنية لنزلاء مستشفى العباسية للصحة النفسية الذي استغرق نزلاء المستشفى ما يقرب من سنة كاملة ومجهود شاق طويل للانتهاء من أعماله، وتنظمه وحدة التأهيل النفسي بالمستشفى على مدى ثلاثة أيام تم افتتاحه أول من أمس الثلاثاء، ويختتم أعماله اليوم الخميس، ويفتح أبوابه أمام الجميع للزيارة والتسوق عبر شراء منتجات يدوية من صنع المرضى وهي تحمل طابعًا خاصًا جدًا. الفرحة تسكن الوجوه أحلامهم كحمام الحرم المكي مُحرّم قتله، وقلوبهم كطير خُضْر ترفرف في سماء الأمل وعيونهم تسكنها اللمعة والفرحة والبهجة من جني ثمار ما زرعوه في السنوات الماضية، اتخذوا من عزلتهم طاقة عمل ومن وحدتهم شعلة حماس، ومن دعم المستشفى لهم قوة وطاقة إيجابية عالية، ومن فترة تأهيلهم خلية عمل، لم تعقهم وصمة المرض النفسي كما تفعل في غيرهم، أو تمنعهم قلة الإمكانيات المتاحة لهم من تنفيذ أفكارهم المجنونة المسكونة بداخلهم التي تنتظر الإذن بالانطلاق والتحرر من الحبس الذي طال، بل توحدوا وتكاتفوا جميعًا في فريق عمل واحد في سبيل تنفيذ حلمُ قديم طالما راودهم في غدوهم ورواحهم عبر عرض أعمالهم الفنية ومنتجاتهم التي هي من صنع أيديهم أمام الجميع، دون يأس أو ملل، محملين برسالة هامة للمجتمع مفادها أن المرض النفسي ليس وصمة عار يعيقهم لحظة عن إطلاق مواهبهم الدفينة أو حبس أنفسهم وراء جدران الخوف والمرض. تشمل أعمال المرضى المتعافين منتجات يدوية وأنشطة مختلفة من لوحات فنية وزخارف وأعمال أركيت ومفروشات يدوية كان يتوسط كل ذلك لوحة تعريفية بالمرض النفسي وفئاته المختلفة، «الهلاوس، الفوبيا، الاضطراب، الضلالات، الاكتئاب، التوحد» ضمن حملة التوعية التي تتبناها الأمانة العامة للصحة النفسية كجزء من مسئوليتها الاجتماعية، للتأكيد أن العلاج النفسي والتعايش وإعادة الدمج في المجتمع يسيران في طريق واحد. حضور مكثف حضر افتتاح المعرض عدد من قيادات وأطباء المستشفى، على رأسهم الدكتورة منى عبد المقصود أمين عام الأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان، التي حرصت على قص الشريط الأحمر لافتتاح المعرض، والدكتور جمال عبد العظيم مدير مستشفى العباسية، والدكتور حسام صبري مدير وحدة التأهيل بالمستشفى، وأطباء ومرضى نفسيون كثر. وشهد المعرض حضورًا مكثفًا في أيامه الثلاثة وحرص الزائرين على اصطحاب أطفالهم وذويهم معهم لرؤية منتجات المرضى لتشجيعهم وشراء ما يلزمهم من لوحات فنية أو زخارف ومفارش وأنتيكات وتحف وبورتريهات وحقائب يدوية ذات ألوان مبهجة.. كل ذلك بأسعار رمزية جدا. إزالة وصمة المرض وحدة التأهيل النفسي بالمستشفى هى الراعي الرسمي لهذا المعرض السنوي، حيث تقدم خدماتها المتواصلة لرعاية المرضى ودعمهم وتطويرهم والوقوف معهم جنبًا إلى جنب مع كورس العلاج في سبيل تنمية مهاراتهم الفنية وزيادة قدراتهم على النجاح في العمل والتعلم والتعامل مع الظروف الصعبة، والاختلاط مع البيئة المحيطة وشخوصها وتهيئتها لهم لتتناسب مع ظروفهم الجديدة لزيادة قدراتهم المعرفية، وتحفيزهم من خلال برنامج الدمج بالمجتمع، ليعيشوا حياتهم بصورة طبيعية كما كانت من قبل. يقول الدكتور حسام صبري، مدير وحدة تأهيل المرضى بمستشفى العباسية، إن المعرض السنوي يعد من الأعمال الدورية لوحدة التأهيل التي تقوم على تأهيل المرضى لإعادة دمجهم بالمجتمع واكتشاف مواهبهم وتنميتها وتحفيزهم عن طريق العلاج بالعمل، وتشجيعهم ضمن مساعي الوحدة المتواصلة لإزالة وصمة المرض النفسي. الدمج في المجتمع الفكرة من وراء المعرض ليست غاية في حد ذاتها، حسب مدير الوحدة، ولكنها خطوة ضمن برنامج التأهيل النفسي، وإعادة دمجهم في المجتمع واستعادة مهاراتهم الفنية وتحسين سلوكياتهم ضمن الأهداف العقلية والسلوكية والفنية التي يتم تحقيقها، وفوجئ الجميع هذا العام بمواهب غير عادية تلتها دعاية كبيرة لأعمالهم اليدوية شبه الاحترافية. لم يكن هذا هو عامهم الأول أو معرضهم الوحيد، ولكن هذا المعرض يقام سنويًا منذ أكثر من 5 سنوات، وإن كان إنتاج المرضى هذا العام أكثر غزارة، وتم تسليط الضوء عليه أكثر بمشاركة ما يقرب من 60 مريضًا نفسيًا غالبيتهم مشتركون في برنامج التعافي والتأهيل النفسي من خلال تنفيذ أعمال يدوية بسيطة (نجارة، نقاشة، زخرفة، رسم)، وغيرها، بالإضافة إلى عملهم بالمسرح ضمن أنشطة أخرى عديدة يقومون بها. دورة رأس المال صبري أوضح ل«التحرير» أن كل الخامات والأدوات المستخدمة في برنامج العلاج بالعمل مملوكة للمستشفى، وليس من حق المريض المطالبة بأسعارها والعائد المادي من ورائها لا يرجع إليه، حيث تعود دورة رأس المال كاملة إلى المستشفى للإنفاق على برامج تأهيلهم، وفي سبيل تشجيعهم وإدخال الفرحة في نفوسهم تخصص لهم الإدارة مقابلا رمزيا بجانب الأجر اليومي الذي يحصلون عليه في ورشة العلاج بالعمل التي تسبق الدورة التأهيلية. العلاج بالعمل «منتجات العلاج بالعمل».. لافتة جانبية تجاور المنتجات والأعمال اليدوية التي غزلها المرضى بأنفسهم في أثناء وجودهم بالمستشفى ولوحات فنية وبورتريهات رسموها بأيديهم وأكواب وحقائب للسيدات معلقة على الحائط تطوق المكان، وقام أحدهم بتأسيس فيلا تحمل اسمه «فيلا سيد محمد» كساها باللون الأحمر وأحاطها بسور برونزي تتوسطه بوابة بلون الشيكولاتة، وفي الداخل كانت الخضرة تغمر الأرضية وتظلل الأشجار في "ماكيت" استثنائي بديع. رسالة شكر لوحات جانبية معلقة على الحائط مكتوب عليها "رأيك يهمنا" لمعرفة آراء وتعليقات وردود أفعال الزائرين أو ما يعرف باسم «Feed Back» أو الأثر الرجعي لتحسين أعمالهم فيما بعد. وحرص الجمهور على كتابة الكلمات التشجيعية لهم والتي تملأ الورق الأبيض المعلق: «مجهود غير عادي وإنتاج أكثر من رائع وروح إيجابية عالية» مذيلة بتوقيعاتهم وتاريخ الحضور. في الجوار كانت كلمات الدكتور أحمد حسين، منسق جبهة الدفاع عن مستشفى العباسية تتصدر تلك اللوحات البيضاء، جاء فيها: «تعجز الكلمات عن وصف الشكر للمجهود الرائع للمرضى وفريق العمل»، مضيفًا في تعليق له أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يحافظون بها على المستشفى لتوعية المجتمع بأهمية مستشفيات الصحة النفسية وفي القلب منها مستشفى العباسية، التي تلاقي هجمات شرسة من قبل البعض، في محاولة للتمهيد لتقبل الرأي العام نقلها إلى خارج حدود العاصمة. وتابع: الدفاع عن المستشفى يكون عبر بوابتي الفن والعمل اللذين يسيران جنبًا إلى جنب مع برنامج العلاج النفسي، من خلال إبراز الصورة الحلوة والأعمال الجميلة والتوحد في فريق واحد، من أجل تجميل البيت الكبير الذي يضم المرضى والأطباء معًا.