ملاحظات في الدرس المنهجي 1- مدخل: شكّل نقد الفكر الديني الوضعي، واحدًا من أهم القضايا والإشكاليات التي طُرحت على العقل المصري والعربي، منذ نهاية القرن التاسع عشر، وطيلة القرن العشرين، حتى مفتتح الألفية الجديدة، وإلى العقد الثاني فيها، وسوف تظل واحدة من أهم شواغله الكبرى. تعددت المقاربات المنهجية والتاريخية والسياسية والفكرية والخطابية في التعامل مع الفكر الديني عمومًا، والإسلامي على وجه الخصوص. أول هذه المقاربات تمثلت في الأسئلة الجديدة التي طرحتها الحملة الفرنسية، ومدافع نابليون وتجارب علماء الحملة أمام بعض علماء الأزهر، ثم تبلورت مع السؤال المركزي الذي يعاد إنتاجه لماذا تقدموا؟ ولماذا تخلفنا؟ ومن بين ثنايا السؤال طرحت مسألة الفكر الديني السائد وجموده، وأثره في إنتاج واقع التخلف التاريخي. قامت الدولة المصرية الحديثة منذ تأسيسها على عهد محمد علي، على نمط من التحديث السلطوي للمؤسسات والقيم للخروج من دوائر الفكر الديني التقليدي المحافظ، ونزعته النقلية، وجموده وعدم اجتهاده. من أبرز هذه النماذج السياسة التحديثية السلطوية، والتى تمثلت في عديد من الإجراءات ذات المحمولات الحديثة المغايرة للفكر الديني الوضعي السائد، وذلك على النحو التالي: 1- إدخال بعض المفاهيم القانونية الحديثة المغايرة لنظام الشريعة الإسلامية، وعلى رأسها مفهوم الاتفاق الجنائي، والخروج على النظام الحدودي العقابي، من خلال استبدال عقوبة أو حد السرقة بالنفي إلى فيزا أوغلى بالسودان، وذلك لاعتبارات تتصل بالحاجة إلى الأيدي العاملة في الأراضي الزراعية. 2- تصفية نظام الالتزام والأساس الاجتماعي لطبقة علماء الأزهر. 3- تبعية الأزهر المالية للدولة المصرية، وعلى رأسها أجور العلماء / المشايخ، والعاملين، والطلاب. في عهد إسماعيل باشا تطورت الأمور على نحو شكل تغيرًا جذريًا في النظام القانوني من خلال استعارة الهندسات القانونية الوضعية الغربية – الإيطالية والفرنسية، وتطبيقها في القضائين المختلط والأهلي، باستثناء نظام الأحوال الشخصية الذي خضع للقانون ذو المصادر الدينية. في سياق تطور الدولة ومؤسساتها والمدينة الحديثة الكوزموبوليتانية، حول القاهرة والإسكندرية وتمدد الثقافة المدنية إلى بعض عواصم المدن، بدأ الصدام بين القيم التقليدية، والقيم الجديدة الحداثية الوافدة. 2- المقاربات المنهجية في نقد الفكر الديني الوضعي/ البشري في المرحلة شبه الليبرالية. دار الصراع بين الفكر الحديث الوافد، والفكر التقليدي الديني المحافظ، وذلك تحت عديد المسميات وعلى رأسها ما يلي: 1- استخدام المناهج التاريخية الحديثة في دراسة الدين، وعلى سبيل المثال استخدام محمد حسين هيكل المنهج التاريخي في كتابه محمد، وطه حسين في كتابة الشعر الجاهلي، وأحمد أمين في كتبه فجر الإسلام، وضحى الإسلام، ويوم الإسلام. 2- بروز الصراع بين الفكرة القومية المصرية، وبين الفكرة الإسلامية لاسيما بعد ظهور جماعة الإخوان المسلمين 1928. 3- مفهوم الخلافة وطبيعة الدولة في الإسلام مع كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق. 4- طبيعة الدولة، ووظيفة الدين، في كتابي خالد محمد خالد من هنا نبدأ، والدين للشعب. هذا النمط من القضايا والإشكاليات الكبرى اتسم بالطابع الثنائي الضدي - الحديث والتقليدي، التجديدي والمحافظ-، وكان الموروث من الفكر الديني النقلي حاضرًا بقوة في هذه الثنائيات، بل وصل في بعض الأحيان لذروته في الجدل حول الإلحاد – لماذا أنا ملحد لإسماعيل أدهم- والإيمان (لماذا أنا مؤمن؟ لمحمد فريد وجدي) اتخذت الحوارات حول الفكر الديني الوضعي النظر إليه، كعائق في بنية العقل المصري والعربي، عديد الأقنعة والمجازات على نحو ما أشرنا سابقًا. أن بعض هذه الحوارات والسجالات تحول بعضها إلى أزمات سياسية – الإسلام وأصول الحكم، والشعر الجاهلي ومن هنا نبدأ! – إلا أن غالبها كان أقرب إلى الرؤى التأملية منها إلى الدراسات البحثية المنضبطة، وفي بعض الأحيان تبدو كخطاب حول الدين أو الفكر الديني النقلي التاريخي أو المعاصر الذي يُعاد إنتاجه، من خلال نقد بعض مكوناته، أو من خلال خطاب إسقاطي محمول على بعض القيم الحداثية على بعض النصوص أو الأفكار من خلال آليات التأويل لها. استمرت هذه الاتجاهات طيلة المرحلة من نهاية القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، وتأسيس النظام السياسي التسلطي في أعقاب ثورة يوليو 1952. 2- إطلالة على اتجاهات الفكر الديني في ظل ثورة يوليو 1952 استمرت بعض الفوائض النقدية شبه الليبرالية في مقاربة الفكر الديني الوضعي في ظل محاولات جماعة الإخوان المسلمين التأثير على مسار حركة الضباط الأحرار ومن ثم على عملية تشكيل النظام السياسي الجديد، على نحو أدى إلى الصدام بينها وبين مجلس قيادة الثورة وقادة النظام الجديد، وهو ما أدى إلى محاكمات بعض قادتها وكوادرها بعد حادثة المنشية، وإعدام بعضهم، ودخول بعضهم الآخر إلى السجون والمعتقلات، ثم صدام منتصف عقد الستينيات ومحاكمات وإعدام لبعض قادة الجماعة وسجن بعضهم الآخر. لا شك أن هذه البيئة السياسية الصدامية أثرت كثيرًا على مقاربات الفكر الديني، فضلاً عن تبلور الطبيعة التسلطية للنظام في ظل موت السياسة. في هذا الإطار يمكن طرح الملاحظات التالية على مقاربات الدين، ونقد الفكر الديني على النحو التالي: 1- دخول النظام السياسي التسلطي وقادته طرفًا في السجال الديني، وتبنيهم لمقاربة تحاول التمييز بين القيم الدينية "الثورية" أو "التقدمية" – وفق النعوت السياسية التي سادت في هذه المرحلة الناصرية-، وبين القيم الرجعية. 2- تبني الدولة وأجهزتها الأيديولوجية والنخبة الحاكمة خطاب سياسي وديني يربط بين مشروع التنمية، والاستقلال الوطني وعدم الانحياز وحركة التحرر الوطني ومواجهة الاستعمار، وبين مواجهة القوى الرجعية، وتوظيف الدين في العمليات السياسية – كمصدر من مصادر شرعية النظام والنخبة الحاكمة، وأحد أدوات التعبئة السياسية والاجتماعية، وفي تبرير السياسات العامة الاجتماعية الداخلية والخارجية وشرعنتها دينيًا، وإحدى أدوات إدارة السياسة الخارجية تجاه الدول العربية والإسلامية -، وذلك من خلال تطوير وإصلاح المؤسسة الدينية الرسمية – الأزهر-، ومن خلال توحيد الخطب الدينية على المنابر من خلال دعاة وأئمة وزارة الأوقاف. 2- تركيز بعض كبار مشايخ الأزهر – الشيخ عبد الحميد بخيت – على بعض الفتاوى التأويلية حول بعض أركان الإسلام الخمس كصيام رمضان، ومحاولة مواجهة ظاهرة الكسل واللا عمل في رمضان، وإفتائه بجواز الإفطار لمن لا يقدر على الصيام ويعوقه عن النهوض بالعمل المنوط به على الوجه المطلوب، شريطة أداء المطلوب منه دينيًا من التزامات حال الإفطار. الملاحظ أن هذه المقاربة تأويلية وعملية ورائدها ضرورة العمل الجاد والكفء في نهار رمضان. أثارت هذه الفتوى ضجة كبيرة، وثم تحويله إلى التحقيق ونقله إلى عمل إداري - ثم إعادة القضاء إلى عمله بالأزهر بعد ذلك. 3- قام بعض المشايخ الأزهريين بتقديم تأويلات دينية لأيديولوجيا النظام التسلطي، سواء في اختياراته للاشتراكية العربية، أو سياسة عدم الانحياز، أو في التأميمات والإصلاح الزراعي، من خلال إيجاد سند ديني تأويلي يسوغ لها. من هؤلاء الشيخ عبده الشرباصي وغيرهم من كبار مشايخ الأزهر. بعضهم الآخر حاول ضبط واحتواء الميول الاشتراكية الواردة في الميثاق الوطني من خلال إعادة تفسيره من خلال بيان المائة الشهير مع بعض القوى المحافظة داخل اللجنة التي أعدت هذا التقرير. نستطيع القول إن هذه المرحلة شهدت بعض من صراع التأويلات بين الفكر الديني المحافظ، وبين النظام ومؤيدين له من رجال الدين ومن ثم لم تشهد هذه المرحلة عواصف كبرى حول بعض الرؤى النقدية للفكر والموروث الديني إلا على نحو محدود بالمقارنة بما حدث في المرحلة شبه الليبرالية.