بعد سبعة أشهر من طرد 35 دبلوماسيًا روسيًا من الولاياتالمتحدة، وإغلاق مقرين تابعين للبعثة الدبلوماسية الروسية في مدينتين أمريكيتين، أعلنت روسيا ردها الحاسم والصارم، الذي انتظره العالم من شرقه إلى غربه بقلق غير مسبوق. لقد ظلت موسكو الرسمية، طوال 7 أشهر تتحدث عن ضبط النفس، وأنها لن تقع في فخ الاستفزاز أو تنجر إلى تفاصيل عديمة الأهمية. وفي الحقيقة، كانت تعوّل في الوقت نفسه بأن "تنكشح" إدارة الرئيس باراك أوباما ليأتي الرئيس المنتخب دونالد ترامب الذي، وبلا أدنى شك، سيراجع كل قرارات سابقه الديمقراطي "اللعين" ويرفع العقوبات عن روسيا ويعيد الأمور إلى نصابها. وفي الحقيقة أيضًا، كانت الإدارة الروسية تعوّل على حسابات غير دقيقة بشأن الخلافات الانتخابية والاتهامات المتبادَلَة بين الحزبين الرئيسيين في الولاياتالمتحدة، والعداء الواضح بين هيلاري كلينتون وباراك أوباما من جهة وبين دونالد ترامب من جهة أخرى. وكان بعض الساسة المتنفذين يرون أن ترامب قد يستخدم ورقة روسيا و"التلطيف" معها لكي يقمع الديمقراطيين، ويقنع الشعب الأمريكي بأنه قادر على ضبط الأمور مع موسكو. كل هذه الحسابات غير الدقيقة، قادت وسائل الإعلام الروسية إلى حالة من العزلة المَرَضية، والشيزوفرينيا و"الضلالات" المهنية والسياسية. وأدت في نهاية المطاف إلى حالة من الغضب والغيظ في العديد من الأوساط الروسية. وبطبيعة الحال، فقد قامت الإدارة الروسية ووسائل إعلامها برفع سقف التوقعات لتمنح نفسها فرصة "صبيانية" لاتهام الطرف الآخر بأنه مخادع، وقاس، ومخرِّب للعلاقات الدولية. مع أن الحسابات العادية، وليس الدقيقة، كانت تتحدث عن أمور أخرى تماما حدثت خلال الأشهر السبعة الأخيرة، وستظل تحدث. وببساطة، فموسكو لا تريد أن تقتنع أن الولاياتالمتحدة، بصرف النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع سياساتها، هي ليست فقط دولة مؤسسات، إنما أيضا مؤسسة بحد ذاتها. كما ترفض موسكو أن تصدق أن الرئيس في الولاياتالمتحدة يخضع للقانون ولمواد الدستور، وللحسابات السياسية الرئيسية التي تقوم عليها تلك المؤسسة الأضخم في التاريخ، وأن الرئيس لا يستطيع أن يقمع هذا الحزب أو ذاك أو يوجه السياسة الخارجية كما يملي عليه الوحي، أو كما يرى في الأحلام. لقد صادق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على القرارات التي جاءت في بيان وزارة الخارجية الروسية بشأن الرد على العقوبات الأمريكية ضد موسكو. وطالبت الخارجية الروسية الجانب الأمريكي بتقليص عدد الدبلوماسيين الأمريكيين على الأراضي الروسية إلى 455 شخصًا، ليصبح مماثلا لعدد الدبلوماسيين الروس العاملين على الأراضي الأمريكية. وأوضحت أن عملية التقليص التي يجب أن تنتهي بحلول 1 سبتمبر المقبل، ستطال الموظفين الدبلوماسيين والفنيين العاملين في السفارة الأمريكية لدى موسكو والقنصليات العامة في سان بطرسبورج ويكاتيرينبورج وفلاديفوستوك. ومن أجل إظهار القسوة والمزيد من الصرامة، حذرت موسكو من أنه في حال أقدم الجانب الأمريكي مجددًا على طرد دبلوماسيين روس من أراضيه، سيتم الرد على هذه الخطوات الأحادية بالمثل. وفي الوقت نفسه قررت منع السفارة الأمريكية، اعتبارا من 1 أغسطس المقبل، من استخدام المستودعات التابعة لها والمنزل الصيفي المخصص لاستجمام الدبلوماسيين في موسكو. موسكو وصفت العقوبات الأمريكية ضدها بأنها غير شرعية، ومع ذلك فهي تأمل بالتعاون مع واشنطن في مجالات أخرى مثل مكافحة الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل والجرائم الإلكترونية. لكنها من جهة أخرى تحاول الوقيعة بين الولاياتالمتحدة وحلفائها الأوروبيين بشكل فردي أو في إطار الاتحاد الأوروبي. وتواصل وسائل الإعلام الروسية حملات شديدة الوطأة لإعطاء انطباع بوجود خلافات حادة بين واشنطن والعديد من العواصم الأوروبية المتنفذة ما قد يتسبب في انهيار حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وأن هناك دولًا أوروبية تساند روسيا وترفض العقوبات الأمريكية عليها. هذا على الرغم من أن الاتحاد الأوروبي نفسه، وبالإجماع، أعلن مؤخرا عن تمديد عقوباته ضد روسيا لعام إضافي. من الواضح أن هناك حلقة مفقودة في السياسات الروسية، وربما تكون الاستراتيجية نفسها بها العديد من المشاكل والحلقات المفقودة. لا أحد يعرف، ولا أحد يتحدث أو يريد أن يتحدث عن ذلك. فالإدارة السياسية في وادٍ، ووسائل الإعلام في وادٍ آخر، والعالم في وادٍ ثالث، والمحللون والخبراء الروس في وادٍ رابع.. وفي نهاية المطاف يحدث كما حدث ويحدث دوما. وبطبيعة الحال، تحتاج الأمور الساخنة من هذا النوع، بعض التصعيد والغضب والصرامة لإقناع الناس بأن الطرف الآخر جشع وطاغية ولا يلتزم بكلامه أو بحسن النية. وعلى الناس أن تقتنع بذلك، على الرغم من أنهم نفس الناس الذين كانوا يستمعون إلى "الحكاوي" و"الرغي السياسي" عندما كانت التصريحات المجتزأة والملتبسة والفضفاضة وتهيؤات وسائل الإعلام الروسية ترفع الأسقف عاليا. وبالتالي، لم يكن غريبا أن يشدد نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف على أن "موسكو لن ترضخ أبدا أمام أساليب العقاب الأمريكية"، و"يحذر واشنطن من مواصلة التصعيد"، مؤكدا أن "كل الخيارات للرد على العقوبات مطروحة"! بل ويذهب إلى أن "مشروع قانون العقوبات الأمريكية ضد روسيا هو وسيلة لترويع العالم برمته بعواقب عدم الطاعة ورفض نهج السياسة الخارجية الأمريكية، وعدم الخضوع لإرادة واشنطن.. ولكن روسيا لن ترضخ أبدا أمام مثل هذه الأساليب. نحن ندعم القانون الدولي والبحث المتواصل عن حلول عادلة للقضايا الدولية". هذه التصريحات "الساخنة" تعطي انطباعًا بأن الدبلوماسي الروسي اكتشف فجأة "البسكليتة" أو أضاف متغيرًا جديدًا لا في النظرية النسبية فقط، بل وأيضا في علم السياسة الدولية، وربما في الاقتصاد السياسي والعلوم الجيواقتصادية، لأنه تحدث أيضا عن أن "الأمريكيين يحاولون، عبر اللجوء إلى هذه الأساليب المنافية للقانون، الحصول على امتيازات في المنافسة الاقتصادية". وإذا ابتعدنا قليلا عن الطنطنات السياسية والإعلامية الروسية، فسوف تفرض الولاياتالمتحدة المزيد من العقوبات على روسياوإيرانوكوريا الشمالية، وستطال العقوبات اللاحقة نظام بشار الأسد أيضًا. وسيقوم الاتحاد الأوروبي بتوسيع عقوباته لاحقا ضد روسيا، بعيدا عن "تهيؤات: الساسة الروس بأنهم نجحوا في دق إسفين بين الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، أو أن هناك عواصم أوروبية كبيرة غير راضية عن سياسات واشنطن، وأن العديد من الدول الأوروبية يواجه الدمار والانهيار بسبب العقوبات على روسيا. ولن تكون هناك صدامات عسكرية بين روسياوالولاياتالمتحدة لا في سوريا ولا في أوكرانيا ولا في البلقان. لن تكون هناك حرب عالمية ثالثة، لأنها بالفعل موجودة ولكن بمعايير أخرى تمامًا غير تلك المعايير الكلاسيكية. سيظل الوضع كما هو عليه، وفق مؤشرات عديدة، حتى نهاية العام الحالي. والمقصود هنا، الوضع الدولي عموما، والوضع في الشرق الأوسط، وبالذات في ما يتعلق بالأزمة السورية. وإذا استطاعت الدول الغربية إطالته إلى منتصف 2018، أو حتى إلى آخرها، فإن ذلك لصالحها تماما. وهذا ما يفسر التعجل الروسي أحيانا في بعض الظروف، والتباطؤ في أحيان أخرى في ظروف مغايرة. ولكن في كل الأحوال، لن تحدث تحولات ملموسة، إلا بعد أن تضمن الولاياتالمتحدة بعض النجاحات في إرهاق روسيا تماما، وفك الارتباط بينها وبين بعض حلفائها المؤقتين. هنا فقط ستبدأ التحولات الملموسة التي سنراها جيدًا في تحركات موسكو غير المحسوبة وغير المتوقعة. في هذه الحالة، ليس بالضرورة أن تدعمها الصين أو تقف إلى جوارها إيران أو كوريا الشمالية، لأن الحسابات ستكون بمعايير أخرى وبقياسات أكثر قسوة وصرامة.