من أهم علامات دخول الصيف ظهور البطيخ فى الشوارع، مصفوفا فى شكل هرمي، على عربات اليد، أو التى يجرها حمار، وبجوارها يقف ذلك الرجل الذى يرتدي جلبابا، وابنه على ظهر العربة من الخلف، ليملأ الشوارع بندائه القوي: على السكين يا بطيخ. لون وحجم حبة البطيخ أقوى بكثير من رائحتها، فالبطيخ فاكهة صامتة وكتومة، ليس لها رائحة معلنة، إلا عند شقها، عندها تبدأ الرائحة فى التسلل بهدوء إلى أنفك: رائحة صحراء نقية، ورمال نظيفة، فتلك الحبة التى تنمو زاحفة على سطح الرمال، تظل محتفظة ببعض من مذاق وأناقة وحرية الرمال، سواء كانت صحراوية أو عادية. تلك الحبة الكبيرة والثقيلة والتي لا يمكن لساق أو فرع شجرة عادية، مهما كانت ثخانتها، أن تحملها، دون أن تنحني وتزحف مثلها على الرمال. وهو ما حدث بالفعل. لذا فصفة الزحف والاختباء أصيلة فى البطيخ، الذي يعتبر من النباتات العشبية من فصيلة "القرعيات" يربط فيما بين حباتها الزاحفة عدة فروع، تشبه الحبل السري، وهناك مجموعة من الأوراق الخضراء التى تظلل كل حبة على حدة، حتى تقيها حرارة الشمس. حبة البطيخ الجيدة هى "البطيخة المرمِّلة"، التى تظهرعند شقها تلك الحبيبات الرفيعة والخشنة المنفصلة عن بعضها كالرمال، ولكنها رمال حلوة تذوب فى الفم. ربما لا يفوق صلادة وسمك قشرة البطيخ سوى حبة جوز الهند والأناناس. أغلب الفواكه التى تحمل تلك القشرة الصلدة والسميكة، عادة ما تنتظرك مفاجأة بداخلها، شىء مناقض تماما لمظهرها الخارجي القاسي: هذا الجريان السخى للعصير والمذاق الخاصين. لذا فالبطيخ من الفواكه الخادعة التى تحمل وجهين، اضطرتها إلى هذا، البيئة الخشنة التى تنمو بداخلها، ولكنها فى جوهرها فاكهة طيبة وهشة، لا تتعارك معها عند تناولها، مثل الكمثرى، وهى من الفواكه التى لها خصوصية وشخصية فى المذاق، أو الجوافة التى لها رائحة وشخصية مفضوحة أكثر بكثير من مذاقها الداخلي. البطيخ فاكهة جماعية، فتكفي حبة واحدة لكى يشترك فيها كل أفراد العائلة، تشبه الأم في احتوائها للجماعة، وفى هشاشتها الذكية المخفية وراء قناع أخضر، وفى مذاقها الحلو بدون إفراط. ربما لا توجد فاكهة أخرى يمكن أن تمنح شعور الارتواء والشبع والمتعة غير المفرطة عند تناولها، كهواء بارد يمر على الفم والقلب والمعدة فى أيام وليالى الصيف الحارة؛ إلا البطيخ. ربما كذلك، فى سلسلة فرادتها، هى الفاكهة الوحيدة التى يمكن تناولها كوجبة عشاء أو غداء مع قطعة من الجبنة البيضاء. عنصران متضادان فى مذاقهما، ولكنهما عند اجتماعهما، مع أرغفة الخبز الطازج، يكونان مذاقا جديدا ومحببا على الموائد وبلكونات المصايف، وطبليات ومصاطب القرى ووسط الحقول. هل يمكن أن ننسى دور "البطيخ" فى فيلم الأرض للمخرج يوسف شاهين؟ كان عربون المصالحة وجبر الخاطر، عندما يكسر دياب "علي الشريف" "بسيف يده" حبة بطيخ عملاقة لأبو سويلم "محمود المليجي"، وهما جالسان وسط الحقل، ليشق بها أبو سويلم ريقه، بعد عزوفه عن الطعام عدة أيام، نتيجة لإحساسه بالمهانة الشخصية، بسبب تجريده من شاربه بواسطة السلطة التى كان يقف ضدها. براءة البطيخ وعفويته يمكنهما أن يبعثا في القلب طراوة، وأن يضمدا هذا الجرح النفسي، فى نظر "دياب"، أو على الأقل يساعدا على التئامه. أحيانا لا ينصح الأطباء بتناول البطيخ لمن يعانى اضطرابات فى الهضم، بسبب كمية الألياف التى يحتويها، وصعوبة هضمها، فتحتاج المعدة لإفراز المزيد من أحماضها من أجل تفتيت وامتصاص هذه الألياف. يشترك البطيخ فى خاصية الألياف الكثيرة مع المانجو. لم أجد فاكهة متسقة مع نفسها، من الداخل والخارج، مثل المانجو. رائحة المانجو الفواحة تعادل تماما مذاقها المعجز الذي يسبب نوعا من الإدمان، ولا يمكن أن تشبع من حبة واحدة، بل تلتهم عدة حبات فى جلسة واحدة حتى تتخلص من هذا الإدمان المزمن. وهى من الفواكه التى أشعر بحسرة والحبة فى يدى موشكة على الانتهاء، ولا أحب أن أتخلص من مذاقها وحرقانها الخفيف حول فمى ونثارتها على أصابعي، بعد انتهائى من أكلها. عادة أنتظر دقائق وسط هذه الحالة المخدرة قبل أن أقوم لأغسل يدي وفمي. في طفولتي كانت جدتى لأبى تجلس فى بلكونة البيت، التي لا يفصلها عن الحديقة سوى خمس درجات رخامية من السلالم، لتتناول طعام العشاء، المكون من الجبن والبطيخ و"الدُقَّة". تلكم الوجبة المفضلة فى ليالى الصيف الحارة، التى تبعث طراوة فى قلبها كما كانت تردد. ومن أجلها كان أبي يخزن عدة بطيخات فى غرفة السفرة على الأرضية الخشبية. كان هناك بائع معروف من الصعيد له سنة ذهبية يقف أمام باب حديقتنا، ويرفع نداءه، فيخرج أبي ويقضي معه وقتا طويلا فى الشراء وفرز البطيخ، ثم تأتي المرحلة الصعبة، مرحلة الحساب والفصال. كان أبي يحفر تاريخ الشراء على سطح البطيخة الأخضر، ليعرف ترتيبها في الجدول. بعد أكل البطيخ، نجمع البذور السوداء، ونغلسها ونضعها فى مصفاة لتجف فى البلكونة ثم نبدأ بتحميصها على النار فى المقلاة الحديدية، مع قليل من الماء والملح. ثم أخرج بهذا المحصول من اللب، إلى البلكونة، أقضي الليل مع كتاب أو لغز أو رواية بوليسية. كان لحي "زعربانة" الذي يقع على بعد عشر دقائق من البيت، طابع ريفي: بيوت بدور واحد مبنية بأحجار بيضاء، وشوارع متربة غير مسفلتة. تجمعت فى هذا الحي كل نشاطات الحياة اليومية: بائعو الخضار والفاكهة والعيش، والفلافل والفول، وعمل العراوي، والجزارين وتصليح الأحذية وبوابير الجاز، والسباكين، بجانب شوادر بطيخ ضخمة. كان صاحب كل شادر ينام فى نهايته. كان اصطفاف تلك الشوادر بجانب بعضها وبعض، يكون مشهدا أشبه بكرنفال البطيخ، الذى يصبغ كل شىء، حتى ذاكرتك، بالأحمر. وتتخيل، في طفولتك، معركة كبيرة تدور رحاها بين أصحاب هذه الشوادر، لتصطبغ أرض الحي المتربة باللون الأحمر. البطيخ، ربما هو الفاكهة الوحيدة، التى تحولت إلى رمز منتشر فى ثقافتنا؛ عند تشبيه الزواج بالبطيخة. ربما شخصيته الصامتة والكتومة وتلك الأسوار الخضراء التى تحوطه جعلته يُتخذ كرمز لمفاجأة مُنتظرة. أيضا فى أفلامنا، اتخذ البطيخ كإحدى علامات الطبقة المتوسطة، كرمز للموظف المغلوب على أمره، الذي يعود إلى البيت حاملا البطيخة على صدره، وهى الدليل على هزيمة ما، وانطفاء الروح، والاستسلام لسلسلة من التنازلات، والدخول فى حياة مملة ورتيبة وقدرية، بلا طموح. حَمْل البطيخ فى الأفلام يعتبر لحظة فارقة تؤرخ لانزواء نهائي لطبقة فى الظل. ربما اختفى هذا الرمز من أفلامنا الآن، ولم تعد له دلالة لأجيال جديدة. لم يعد البطيخ رمزا لهزيمة طبقة الموظفين، ربما لأن هذه الطبقة لم تعد موجودة أصلا، ولم تعد لها رموز تمثلها فى أفلامنا. كنت أخشى، مثل الجميع، أن أكون هذا الموظف المهزوم، فآليت على نفسي ألا أحمل بطيخة. ولكن لسنين مضت، لم أجد غضاضة فى أن أحمل هذه البطيخة الرمز، فى طريق عودتى للبيت وبدون أن أشعر بأى استسلام أو مهانة، أو بالروتين الوظيفي يتحكم فى روحي وخطواتي.