ربما يكون أجمل ما فى مجموعة هانى عبد المريد القصصية «أساطير الأولين»، الفائزة بالمركز الثانى لجائزة ساويرس، أنها لا تقدم فقط إلى قارئها مجموعة لامعة من الأقاصيص والنماذج الإنسانية واللحظات العميقة، ولكنها أيضًا وبالأساس توجه التحية إلى فن الحكى نفسه، وتراه جزءًا لازمًا ومتعلقًا بالإنسان، لا يوجد شخص بلا حكاية، ولا توجد حكاية بلا خيال، ولا توجد حكاية بلا معنى. عالم الحكايات ليس هو الواقع، ولكنه واقع موازٍ له قوانينه وعالمه وبهجته وحضوره وواقعه الخاص. «أساطير الأولين» تكتسب سحرها من هذا الانحياز الذى يبدأ من العنوان. يريد صاحب المجموعة أن يبعده عن ضبابية الاستهجان الدينى، ليدخل تلك الحكايات إلى قدسية محراب الفن. ينجح القاص البارع فى ذلك نجاحًا مبهرًا، وينجح أيضًا فى أن يحقق إهداءه الذى يتصدر المجموعة المكثفة (نحو 90 صفحة فقط) بهذه العبارة: «إلى كل الحكايات والبشر الذين مروا دون أن يلتفت إليهم أحد». تتكون المجموعة من 25 قصة، بعضها لا يزيد على صفحة واحدة، ولكن هذه المتتالية القصصية تنطلق فى إطار بناء متماسك موضوع بين قوسين. القوس الأول هو أصل هذه الحكاية، ولماذا انهمر هذا الطوفان من الحواديت، والقوس الأخير يجمع معظم الأبطال الذين عرفنا حكاياتهم فى قصة واحدة أخيرة. أصل القصة أن بناية كانت تنقطع عن العالم من خلال وصلة واحدة للإنترنت، انقطع عنها البث، كان السكان يعتمدون على الاشتراك من الباطن مع مشترك أصلى، فشلوا فى إصلاح الخلل، فارتدوا من جديد إلى عالم الحكى القديم، تعطّل الحكاء الجديد الذى جعلهم أكثر اغترابًا عن بعضهم، وربما عن أنفسهم، فعادوا ليؤدوا أدوار شهرزاد، أو كأنهم أولئك الذين حبسهم الطاعون فى الدير القديم، فقرروا أن يقتلوا الوقت بأن يروى كل واحد منهم قصة، هكذا فعل بوكاشيو فى «ديكاميرون»، وهكذا قرر سكان بناية هانى عبد المريد أن يحكوا كما يليق يغرباء: «كما يليق بالخوف وتوقع الغدر، فكانت الحكاية تنبت شيطانيًّا.. بلا نسب، فلا يعرف هل تخص الحاكى أم عن أحد الحاضرين، أم أنها مجرد حكاية حدثت فى وقت ومكان ما، هكذا انطلق الحكى دون قيود، وبدأت الحكايات تتوالد واحدة تلو الأخرى، لتملأ فضاء المكان». الإنسان إذن حيوان حكاء، لو لم يجد الحكاية لاخترعها، ليس فقط جلبًا للونس، وقتلًا للوقت، ولكن ترجمة لدافع الفضفضة والبوح، واستلهامًا لمعنى الحياة والأحياء، تتوالى القصص معنونة فى كل مرة بكلمة حكاية: «حكاية الولد الذى انتظم فى الصف، حكاية الرجل الذى حاول امتلاك اليقين، حكاية رجل الحكايات، حكاية روب الخال، حكاية الرجل الذى ظل يضحك، حكاية القديس، حكاية الرجل الذى كلما وجد فى جيوبه قطعة حلوى أكلها».. إلخ، وفى القوس الأخير يعود القاص المعاصر الذى استعار بناء حكايات أمهات كتب الحكى بصورة مصغّرة «ألف ليلة، وحكايات كانتريرى، وديكاميرون»، لكى يجمع معظم أبطاله فى حكاية واحدة، وكأنهم صنعوا بناية موازية تعادل البناية التى تعطلت فيها شبكة العالم، فعوضتها شبكة الحكايات، محور الحكاية الأخيرة هى موت رجل الحكايات، ولكن قصصه السعيدة والحزينة معًا تبقى أطول عمرًا منه. نكتشف وقد انتهينا من القراءة، أن الإنسان ما هو إلا حكاية، وأن فن الحكى ليس فقط مستودع الخيال والتسلية، ولكنه يمنح الحياة معناها، ويصطنع ما شاء من الحكايات، وما شاء من العلاقات، لن تعرف أبدًا حدود الواقع والخيال، ولن تكتشف أيضًا هل تسكن بناية أجهزة الكمبيوتر فى بناية الحكايات، أم أن بناية الحكايات ليست إلا المعادل القصصى لشخوص بناية الكمبيوتر. هذا التلاعب الذى يقوم به القاص فى صميم سحر الفن، وفى صميم غموضه الملتبس، حكاية رجل الحكايات هى واسطة العقد الملضوم بخيط الفضفضة، إنها تعادل ما يطلقون عليه فى الشعر «بيت القصيد»، بطلها رجل على المعاش، لم يحصل على يوم إجازة من عمله طوال ثلاثين عامًا، يقول له الناس: «إنتَ اللى زيك، لو كان عايش برة كان عملوا له تمثال»، لم يُرد تمثالًا، كل ما أراده هو أن يسمع الحكايات على المقهى، يجلس طوال اليوم طالبًا اليانسون والحلبة، وآكلًا الترمس، ومجمّعًا نفرًا ممن التفوا حوله، استمتاعًا بخفة ظله، أو التماسًا للمشاريب المجانية، كان يصرف معاشه تقريبًا على جلسات المقهى، التى منحته حياة إضافية، كان «يعرف أن كل ما حوله لزوال، هو أيضًا زائل يدرك ذلك، ويدرك أيضًا أن الحكايات هى التى ستبقى، كان يدفع بسخاء لكل من يحكى، لا حرمان اليوم، ولا جوع لمن حكى ..». فلما تآكلت فلوس معاشه ومكافآته، قرر رجل الحكايات أن ينفذ الفكرة التى ربما كان يخطط لها منذ البداية، دون أن يبوح بها لأحد: «جمع كل حكاياته، فرزها لنوعين، الحكايات المبهجة الفرحة نسج بها سجادة الحكايات السعيدة، أما الحكايات البائسة التعسة، نسج بها سجادة الحكايات الحزينة. فوق سريره دومًا سجادة، إما فرش فى أيام الصيف، وإما غطاء فى أيام الشتاء، الرجل يلجأ فى أوقات حزنه إلى سجادة السعادة، تمسه الفرحة بأناملها، فلا يتمكن منه الحزن بشدة، يستعمل فى أوقات سعادته، سجادة الحزن ليتذكر دومًا أن فى العالم بؤساء، فلا يكتمل شعور الفرحة لديه. الرجل بكل صراحة لم يكن يخشى فى حياته خشيته الاكتمال، يرى دومًا النقص فى الاكتمال. الرجل يتصنّع كل يوم النوم ليرى الحكايات الشقية تنسلّ من نسيج سجادته ليلًا، تتجول فى حنايا الغرفة، يشعر بالرضا فقط كلما وجد الألفة تدب بين حكاياته المختلفة، ويشعر بمتانة نسيج سجادته، وإنه وسط الزيف الكثير.. قدّم للعالم شيئًا حقيقيًّا». فى «حكاية الحكايات» الأخيرة، سيعود رجل الحكايات إلى الظهور وسط مجموعة من أبطال القصص التى قرأناها، وسيتحقق حرفيًّا ما تنبأ به من أن كل ما حوله إلى زوال إلا الحكايات التى ستبقى، عندما دفنه سكان العمارة فى التراب: «انفرطت حكاياته من السجادتين مرة أخرى، ممتزجة ببعضها بعضًا، الحكايات الحزينة على الحكايات الفرحة، وكان سكان العمارة يسمعون تهامسهم وشجاراتهم ليلًا، وكأنها حيوات حقيقية يعيشونها، فلم يعد الواحد منهم يعرف حياته الحقيقية التى تتلبسه يوميًّا، حتى تجمعوا، فتحوا كل أبواب ونوافذ شقة رجل الحكايات المغلقة، لتنتشر من جديد الحكايات فى فضاء العالم». من الحكاية وإلى الحكاية نعود، قد نتصور عالمًا بلا شبكة كمبيوتر، ولكننا لا نستطيع أن نتخيل عالمًا بلا حكايات، فى كل قصة قصيرة يفضّل هانى عبد المريد أن يبدأ السطر بالفاعل (الولد، البنت، الرجل)، الإنسان هو الهدف، والسرد يكاد يجعل منه أسطورة (فى حكاية القديس مثلًا يمتزج ولد بحياة وأفكار كل مَن ناموا فى تابوت الموتى فيعرف دون أن يعرف أنه يعرف، ويصل دون أن يدرى أنه وصل، ويعيش كقديس دون أن يدرى أنه قديس). لا توجد كلمة زائدة، أو ثرثرة سردية، وإنما لحظات مكثفة أصبح لها معنى عندما صارت حكاية، وما نحن فى الحقيقة سوى حكايات كتبت فصارت أكثر بقاء من أجسادها الفانية. أعدك بمتعة حقيقية، واكتشاف أفضل للإنسان، لا يعكر صفو قراءة «أساطير الأولين» سوى الكثير من الأخطاء اللغوية المزعجة، ولكنك ستهتف حتمًا عندما تنتهى منها فى جلسة واحدة: «طوبى للحكائين لأنهم أبدا لا يموتون».