أخيرًا جاء الصبى بالطلبات. رأيت قهوتى مصبوبة فى الفنجان، ودائر الوش البنى متباعد للحافة فوق البن الأسود. رفع صاحبى رأسه، بعدما سحب دخان الشيشة، وأخرج دفعات متتابعة من شفتيه المختلجتين مثل فم السمكة. كنا نجلس على نفس الطاولة التى جلسنا عليها منذ شهرين، تاركين أنفسنا وحيدين على رصيف المقهى فى مواجهة الطريق السريع. قلنا ما قلناه منذ عام، وانفرشت ابتسامات مستعادة على وجهينا، إلى أن دلدل صاحبى رأسه فوق المبسم وتوحدت أنا مع سيجارتى. هب مرة واحدة جاحظ العينين: - إيه رأيك نقوم؟ - نقوم فين؟ - أى حته تانيه... - زى ما انتا عاوز.. قام تسبقه شهامته ليدفع الحساب. لم تفلح جذباتى اللينة لذراعه وانفلت إلى الداخل. قمت واقفا أتطلع إلى الطريق المزدوج، وأقيس مسافات وهمية تلعب برأسى. غاب عنى دقيقة ورجع متعجبا: - تصور ماحدش هنا خالص؟ - آمال الراجل والولد راحو فين؟ - تعالى شوف! المقهى من الداخل خال. الطاولات مفروشة بالأزرق ومحوطة بالكراسى المنبعجة المعروفة، والشيش مرصوصة منتصبة جنب الحائط. أكواب المشروبات مغسولة ومقلوبة فوق الحاجز المرتفع بطول الصدر، وخلفه فى الحائط أدراج بها برطمانات متشابهة فى اللون البنى الكريمى. الكرسى الخيزران لصاحب المقهى فى مكانه خلف المكتب القديم، فقط درج المكتب كان مسحوباً وفى قلبه بعض أوراق النقود. نظرنا إلى بعضنا: - هو فى ايه؟ - مش عارف... إيه رأيك؟ - بتفكر فى اللى بفكر فيه؟ - أظن كده! جلس صاحبى على الكرسى، وذهبت خلف الحاجز وأشعلت موقد الغاز بولاعتى، ثم ملأت الكنكة من ماء الحنفية الهادر. سحبت كوبين من أمامى على رخامة الحاجز، وبالملعقة الصغيرة وضعت الشاى والسكر. مشيت والتقطت شيشتين وفككت ليهما. أخذت قطعتى فحم كبيرتين وأمسكتهما بالماشة وصدرتهما أسفل الموقد. عدلت الكنكة فوق الموقد، ورأيت الحمرة الوردية تغزو حواف الفحم وتتسرب للقلب. كان صاحبى قد التقط حجرين أسودين ورص عليهما من معسله الخاص، فاتجهت أسوى الفحم على الحجرين اللذين تزينا بزهرات الجمر. صب صاحبى الكوبين وعاد جالسًا على المكتب متطلعًا للطريق. كان درج المكتب مفتوحًا أمام بطنه فرده بكفه، فى ما أنا جالس على طاولة خالية فى الجوار أتأمله يعاود فتح الدرج وإخراج النقود وتسويتها ثم ركنها مرة أخرى ورد الدرج. عادة ما يمر الوقت فى مثل هذه الظروف بسرعة، فها هو يحط المبسم فوق المكتب ويقوم حاملا الشيشتين ليركنهما فى مكانهما جنب الحائط، وينفض الحجرين ويعود ليغسل الكوبين ويقلبهما فوق الرخامة. مد يده فى جيبه وهم بدفع الحساب فقلت بجدية مادا يدى: لا والله! أخرجت ثلاث ورقات وسويتها فى الدرج بنفس الطريقة وأعدت الرد والإغلاق. ألقينا نظرة أخيرة على المقهى، وخرجنا صامتين بشكل لافت. كنت أفكر فى المرة القادمة، وربما كان صاحبى يفكر فى الأمر نفسه.