لم أكن أتصور أن «سى دى» اشتريته يقوم بمفعول السحر معى وعلى.. فى لحظة ما شعرت بالخنقة من الناس ومن بعض المقربين لدى من كثرة وفرط إشعاعهم بالطاقة السلبية وبَخ سموم الإحباط فى وجهى، بعد أن كنت قد شعرت بأننى أخيرا تخلصت من تلك المشاعر، ولكن نقطة التحول التى عشناها وعايشناها أوصلتنى ربما إلى المشاعر العكسية تماما، لدرجة الهبل أو اللا منطق كما يراه هؤلاء المقربون (ففى هذه الأيام أصبحت أحاديث وفتح باب الحوار والجدل مع الغرباء أكثر سهولة وفاعلية)، ربما لأننى على الأقل معفاة من التوقعات أو الإحساس بالصدمة وخيبة الأمل من أفكارهم. وبالطبع فى هذا المأزق لا أملك سوى أن أستمع وأنصت وأتورط فى الحديث، أو أن أُتهم «بالفاشية» وعدم الديمقراطية، وخد عندك كلام شبه «يعنى انتو عاوزين تعملوا اللى فى دماغكم وتبوظوا البلد، وفاكرين إن انتو بس اللى بتفهموا؟»، وفى الكلام اتهام كان بودى أن أتشرف به، وهو الحديث معى كأننى من محركى الثورة، أو العقل المدبر لها، وصوتى الداخلى يقول يا ريييييت! والله العظيم أنا أحترم وأقدّر مشاعر الخائفين والقلقين على هذا البلد، ولهم ومعهم كل الحق سواء كانت مخاوفهم من أفعال بعض السلفيين التى تصل إلى حد الاشمئزاز والقرف، أو الخائفين بسبب «البلطجية»، وهم للمفارقة فى شدة التعاطف مع الجهاز الأمنى الذى يتشدق بعبارة «الشعب مش طايقنا ومش عارفين ننزل نشوف شغلنا ونحمى البلد، علشان خايفين من المصادمات مع الشعب»، وهى خيبة قوية من الطرفين: من الشعب الذى يردد هذه العبارات ويصدقها، ومن الجهاز الأمنى الذى بعد أن يردد هذا النوع من المبررات «اللا مؤاخذة» لم يبق لنا سوى أن نطالب بإغلاق كليات الشرطة، ورفع هذه المؤسسة الأمنية من الخدمة، بما أنهم لا يملكون أدوات وآليات التفرقة بين المواطن «الثائر» والبلطجى المروع للأمن وخارق القانون. وللمفارقة فإننى خلال الأشهر الثمانية الماضية لم يصادفنى رجل شرطة واحد يتحدث فى الإعلام عن كم المصريين الذين يتعاملون مع الشرطة بمنتهى الموضوعية والاحترام، فى محاولة لتغيير الصورة النمطية ولتحفيز الشرطة على النزول إلى الشارع لتنفيذ القانون، وتنفيذ دورها فى الحماية، وإرساء قواعد الأمن، لا لترهيب الشعب وكسر عينه ورجله ودماغه (بالطبع هذا الوصف من دون تعميم على جهاز الشرطة). حوارات كثيرة وأغلبها مُضنٍ، تبدأ عادة «طبعا أنا مع الثورة، بانحنى للشباب الذين أشعلوا فتيل الحرية، وأسهموا فى أن نصل إلى مرحلة كشف الفساد»، وينتهى أغلبها بكل أسف بجمل على غرار «الشعب المصرى ده جاهل، مش هينفع يتحكم غير بالكرباج، إزاى بتتكلموا عن ديقراطية و80% من الشعب جاهل؟ إلخ. وقتها أشعر، لن أقول الإحباط، ولكن شعورا «بالخيبة القوية»، جملة قالتها جدتى العظيمة، رحمها الله، ذات يوم عندما سمعت أولادها يحتدّون ويختلفون مرة (فى أثناء حديثهم عن الميراث)، بحسرة قالت «ده بدل ما يعششوا على بعض؟! بلا خيبة قوية». هو نفس الشعور، والله العظيم، ينتابنى عندما أتحدث مع كثيرين «للأسف كثيرين»، فيرددون آراء شبه «لأن الثورة بلا قائد فقدت طريقها، همّ الثوار عاوزين إيه تانى؟ عاوزين البلد تتغير على مزاجهم فى يوم وليلة، الطوارئ أمر ضرورى لأنها للبلطجية فقط» (وهنا طبعا لا يتم تحديد مَن البلطجى!)، جمل أخرى لوصف جهل الشعب، وعدم النظافة، وعدم احترام المرور، والعنف فى الشارع، والاعتراض على إضراب المدرسين، والمطالب الفئوية، و«إن الناس دى مش فاهمة إنها بتضغط لمصلحتها مش لمصلحة البلد»، وكل هذا يسوقنا فى النهاية إلى الانتهاء بيأس يبخّه فى وجهى هؤلاء المنتمون إلى حزب «اللى كنا فيه كان أرحم!». لا أملك وقتها سوى «المناهدة» و«الحوار المنطقى»، ولا أنكر «التشنج» أحيانا حتى أضطر إلى قول جملتى التى أصبحت أرددها كثيرا لأغلب هؤلاء الناس «بم تأثرت حياتك سلبا بعد الثورة؟»، فأغلبهم ما زالوا فى وظائفهم ومناصبهم، لم يسرحوا من أعمالهم، أغلبهم لم تُستقطع مرتباتهم، لم يُضطروا إلى تحويل أطفالهم من مدارس دولية إلى مدارس حكومية ليتمكنوا من دفع المصروفات، لقد سافروا كعادتهم إلى الساحل الشمالى للمصيف ولم تنقلب حياتهم...». الكثيرون من المرددين لهذا النوع من الآراء لم يتأثروا، ولم يدفعوا الثمن، لكنهم غير راضين، وأنا أيضا غير راضية، غير راضية أن نصل إلى مرحلة الخيبة القوية، مرحلة أننا لم نعد قادرين على قراءة ما بين سطور الأحداث لنفهم أن هناك من له المصلحة فى ضرب الثورة فى مقتل، والمقتل هو «وحدتنا»، يستخدمون أبشع وأقذر وسيلة للسيادة والسلطة وهى «فرّق تسُد»، كيف لا نفهم هذا يا شعب؟! كان قد ظهر خلال الشهور الماضية وتحديدا فى أثناء أحداث كنيسة صول بأطفيح وكنيسة إمبابة، شعار يلخص وحدة هذا الشعب (الشعب والشعب إيد واحدة)، ثم اختفى. أعتقد أنه لم يعد لدينا سوى أن نعيد هذا الشعار بقوة ونطبقه ونتوصل إلى آليات وبرامج وخطة لترسيخه والإلحاح عليه. علينا أن نتفق جميعا أنه «لا مجال للعودة ثانية على ما كنا عليه». لم يعد لدينا سوى أن «نعشش على بعض.. بلا خيبة قوية».. نسيت أن أقول لكم ما ال«سى دى» بطل هذا الأسبوع الذى مكّننى من احتمال طاقة الفرقة والتشتت والغضب التى أواجهها.. هو عبارة عن 90 أغنية وطنية قديمة فى حب مصر. له مفعول السحر.. جربوه لعله يسكّن أوجاع الخيبة القوية!