دهورت مكانة مصر بشدة فى سنوات حكم مبارك وتحديدا السنوات العشر الأخيرة منها، بعد صعود سيناريو التوريث، فقد جرى تجييش الدولة ومؤسساتها لخدمة هذا المشروع، ومن أجل التوريث جرى بيع دور مصر الإقليمى للولايات المتحدةالأمريكية عبر صفقة مؤداها أن مصر مستعدة للقيام بكل ما تطلبه واشنطن إقليميا ودوليا، ومقابل ذلك تتوقف واشنطن عن الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان فى مصر، وتترك السلطة القائمة ترتب الأوضاع الداخلية على النحو الذى تراه. ترتب على هذه الصفقة أن تراجعت السياسة الخارجية لمصر تماما، وانسحبت القاهرة من اللعبة الإقليمية، تركت الساحة لدول إقليمية غير عربية تبرز وتمارس دورا متزايدا، برزت إسرائيل وتركياوإيران، كل منها تمدد إقليميا واتسعت دائرة نفوذه الإقليمى، فمارست إسرائيل دورا إقليميا تمدد حتى جنوب أوروبا، وضربت عرض الحائط بكل حديث عن مفاوضات السلام. أما تركيا فقد تمدد دورها الإقليمى جنوبا تجاه عالمنا العربى وحلت محل مصر فى تبنى القضية الفلسطينية «الاتجار بها»، مارست سياسات الهيمنة الإقليمية وقدمت نفسها للعالم العربى باعتبارها الدولة الإسلامية الديمقراطية التى بمقدورها قيادة العالم الإسلامى والدفاع عن قضاياه، أما إيران فقد تمددت مظلة نفوذها من العراق إلى سوريا مرورا بلبنان وباتت طرفا فاعلا فى كل قضايا المنطقة، فهى كذلك فى القضية الفلسطينية، والملف اللبنانى، والوضع العراقى وفى سوريا أيضا. أين مصر من كل هذه التفاعلات؟ جرى تغييبها تماما من قبل مبارك ورجاله، فقد تم بيع دورها الإقليمى بالكامل للولايات المتحدةالأمريكية لقاء تمرير مشروع التوريث، كما انشغل مبارك ورجاله فى الحصول على الأموال من دول الخليج العربى لقاء وقوف مصر إلى جانب هذه الدول فى أى تهديدات تتعرض لها، كانت محصلة كل ذلك أن تقلص الدور المصرى تماما حتى انكفأ على ذاته داخل الحدود، وتدريجيا بدأ نفوذ القوى الإقليمية يطرق أبواب مصر، ففى سنوات مبارك الأخيرة نجحت تركياوإيران فى الدخول إلى قلب مصر، كل منهما بأدواته الخاصة التى تتنوع ما بين الدينى، والطائفى والاقتصادى، بل إن مصر باتت ملعبا للثعالب الصغيرة التى عادة ما تفسد «الكروم» بدأت قطر تدخل إلى قلب مصر، تنسج شبكة من علاقات عبر وسطاء، دخلت عبر بوابتى الاقتصاد والإعلام. عندما سقط مبارك لم تكن لدى البلد حصانة، كانت مناعتها قد تهاوت وانفتحت أبوابها أمام القوى الدولية والإقليمية لتمرح كما الثعالب فى الحقول، بل إن قوى قزمية دخلت السباق وتسللت إلى قلب مصر. فى نفس الوقت كانت مؤسسات الدولة المصرية وأجهزتها تكافح لوقف سيل الاختراق الخارجى، وفعلت كل ما فى مقدورها إلى أن جاء مرسى ففتح أبواب مصر على مصراعيها لدخول الثعالب كبيرها وصغيرها، بل فتح أبواب البلاد أمام مسلحين من مختلف الجنسيات، وللسلاح كى يتدفق من مختلف الجهات. وكانت سنة مرسى هى سنة الاختراق الكبير لمصر، فقد جعل مصر مقرا للتنظيم الدولى وحاول هدم مؤسسات الدولة وإعادة تركيبها على نحو يجعلها تعمل فى خدمة المشروع الأممى للجماعة، حقق الرجل وجماعته قدرا من النجاح على مدار سنة حكمه، التى باتت فيها تركيا النموذج والقائد، وقطر الوصيف ودخل كل منهما فى سباق لشراء مصر دولة ومؤسسات. جاءت ثورة الثلاثين من يونيو لتطيح بمرسى وحكم الجماعة، لتخلص مصر من قيودها، فنهضت سريعا وطردت الثعالب الصغيرة وواجهت الكبير منها، صمدت أمام المؤامرة الأمريكية، وواجهت شراسة العداء التركى، لملمت جراحها سريعا واستردت قدرا من عافيتها وبمساعدة من الأشقاء «الإمارات والسعودية تحديدا» تمكنت من الوفاء بالالتزامات العاجلة. وما هى إلا ستة أشهر حتى انقلب المشهد وبدأ كبيرهم فى تركيا يعانى من مشكلات فساد ويواجه احتجاجات شعبية هائلة تطالبه بالرحيل، رفعوا علم مصر فى مواجهته وحملوا صور الفريق أول عبد الفتاح السيسى فى قلب شوارع إسطنبول، فتحدث أردوغان عن أصابع للمخابرات المصرية فى ما يجرى فى تركيا، لم تعلق مصر على تصريحات أردوغان التى لا تصدر عن مسؤول ورجل دولة، ونقول له نظرية «الأصابع» هى نظرية مسجلة باسم الجماعة، والحقيقة أن القضية تتعلق بالمكانة والدور الإقليمى، فما يحدث فى تركيا هو شأن تركى يخص فساد النظام هناك ورفض الشعب له، ولكنه يعكس فشل التغطية عليه عبر التمدد الخارجى ولعب دور إقليمى بأكثر مما تحتمل القدرات التركية، ويعكس قيام مصر من كبوتها واسترداد عافيتها والمزيد قادم.